اللغة الوطنيّة في خطر!
Je dédie cet article à la plus merveilleuse des femmes, celle qui m'a fait découvrir Gaston Miron, et qui m'a fait découvrir ce que c'est d'aimer et d'être aimé..à ma femme .
اللغة الوطنيّة في خطر!
"اللغة هي أساس وجود شعب ما، لأنّها تعكس محصّلة ثقافته من رموز ومعاني ودلالات. اذا سُلِبَت منه لغته عُزل عن العالم وحُكِمَ عليه بالنسيان".
أطلق صرخة الفزع هذه غاستون ميرون، أحد أشهر شعراء الكيباك وأبرز رموز "الثورة الهادئة" التي شهدتها هذه المقاطعة الكنديّة في سبعينات القرن الماضي وانتهت بإعادة الإعتبار للفرنسيّة، لغة أغلبيّة سكّان المقاطعة. واليوم في تونس نعيش حالة شبيهة بما شهده الكيباك حيث كادت اللغة الفرنسيّة ان تندثر بسبب هيمنة الأنجليزيّة، لغة الأقليّة، على مختلف أوجه الحياة في المجتمع. اذ ضاعفت النتائج الثقافيّة للعولمة التي فُرضت علينا كبقيّة بلدان العالم الثالث من موقع الضعيف المُجبَر لا القويّ المُخيَّر من أزمة الإنتماء الثقافي التي ورثناها من حقبة الإستعمار الفرنسي، وكان من أبرز مظاهرها مسألة اللغة الوطنيّة وموقعها بين مدافع عن عروبة لسان الشعب التونسي وبين قائل، أو ممارس عن غير وعي، انّ العربيّة ليست لغتنا، وأنّه يجب استبدالها بلغة أخرى ك"التونسيّة" عند البعض والفرنسيّة أو غيرها من اللغات الأجنبيّة عند بعضٍ أخَرََ مُغالي.
ورغم انّ دستور البلاد كان واضحًا في اعتباره العربيّة "لُغَتها"، الاّ انّ هذه القضيّة كانت دائمًا محلّ جدال بين النخب المُثقّفة، متمحورة في الماضي القريب حول مكانة اللغة العاميّة بين من اعتبرها لغة متكاملة تعبّر عن خصوصيّة هويّة وتاريخ التونسيّين، وبين من رأى فيها ظاهرة ثقافيّة سلبيّة وجبت مقاومتها. وان بدا انّ خيار "التعريب" قد انتصر على مقولة "التَوْنَسة" في أواخر التسعينات من القرن الماضي، فإنّ الناظر لواقع الحال اليوم يلحظ الإنتشار السريع لظاهرة قديمة متجدّدة هي ظاهرة "الفرانكوآراب"، التي يبدو أنّها تجاوزت بحكم التحوّلات العميقة التي شهدها المجتمع في العشريّة الفارطة كلتًا المقولتيْن السابقتَيْن.
"الفرانكوآراب": أبرز مظاهر التخلّف الثقافي لدى الأجيال الجديدة
أخذت ظاهرة "الفرانكوآراب" حجمًا غير مسبوق في السنوات الأخيرة. ففي ظلّ أزمة التعليم بمختلف مستوياته، وفي مناخ اتّسم بمصادرة الحرّيات العامّة، وعلى رأسها الإعلاميّة، وما نتج عنه من خطاب اعلامي خشبي ممجوج، ظهرت وسائل اعلام خاصّة مرئيّة ومسموعة سرعان ما جذبت اليها معظم شرائح الشباب، وذلك لما تميّزت به هذه المنابر الجديدة، التي تُعدّ إذاعة "موزاييك آف آم" أهمّها، من خطاب مُبسَّط ، وهامش من الحرّية كان أوسع ممّا عهده النّاس في وسائل الإعلام الرسميّة، وان اقتصر على الرياضة وملامسة بعض القضايا الإجتماعيّة. لكن ما ينتقده الكثير من الملاحظون، وخاصّة منهم المنادون بتحصين الهويّة الثقافيّة للمجتمع أمام رياح العولمة العاتية، هو اللغة التّي يستعملها مقدّمو برامج هذه الإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام الجديدة. اذ لا يفهم المرء لماذ يصرّ بعض هؤلاء على استعمال كلمات فرنسيّة للتعبير عن معان من السهل التعبير عنها بالعربيّة الدارجة كعبارة "موش normal " عوض "موش عادي" أو "donc " عوض "لذا" وغيرها ممّا شاع استعماله لدى عديد الناس...، وعادة ما يكون التبرير انّهم يتكلّمون كما يتكلّم التونسيّون اليوم. وبغضّ النظر عن مدى صحّة هذا الإنطباع ومدى وجاهة فكرة انسياق وسائل الإعلام وراء المزاج العام، لا يمكن للمرء الاّ ان يُستَفَزّ عندما يسمع مذيعة تقول "partout dans le monde" عوض "في كلّ العالم" أو " réponse " عوض "اجابة"، بما يعني انّ وسائل الإعلام هذه لا تكتفي بعكس هذه الظاهرة الإجتماعية وانّما تكرّسها وتزيد من تفاقمها. انتشرت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ أيضًا في الإعلانات الإشهاريّة سواءً في وسائل الإعلام أو في الطريق العام، كما أنّها سهّلت "تأقلم" مستعملي الأنترنات التونسيّين مع الهيمنة شبه الكلّية للغة الفرنسيّة على معظم مواقع الواب ومنتديات النقاش. لكن الجديد والخطير في الأمر هو تسلّلها مؤخّرًا الى وسائل الإعلام العموميّة، اي التلفزة والإذاعة الوطنيّيتين وقناة واذاعة الشباب، التي بقيت الى ماضٍ قريب تدافع عن استعمال اللغة العربيّة بشقيّها الفصيح أو العامّي القريب من الفصيح.
يعتبر عالم الإجتماع التونسي الدكتور محمود الذّوادي "الفرانكوآراب" من أبرز تعبيرات ما يسمّيه "التخلّف الثقافي" أو "التخلّف الآخر" في كتابه عن "عولمة أزمة الهويّات في الوطن العربي والعالم الثالث"، الذي يرى انّه التجسيد المعاصر لقاعدة الغلبة والتقليد بين الشعوب والأفراد لإبن خلدون الذي كتب في مقدّمته :"المغلوب مولعٌ أبدًا بالإقتداء بالغالب، في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" وانّ ذلك أمر مفهوم في مجتمع ينتمي الى أمّة مازالت لم تتعافى من آثار هزائمها الحضاريّة، ولم تهتد بعد الى الطريق لتجاوز تخلّفها في كلّ المجالات عن غيرها من الأمم. ولعلّ الإطلاّع على ما يجري في المجتمعات الأخرى في هذا الصدد يكون مفيدًا لفهم أوسع لهذه الظاهرة ومساعدًا على تنسيب الأمور ورؤيتها بشكل أكثر وضوحًا وموضوعيّة.
ظاهرة عالميّة تصدّت لها الأمم المتقدّمة بحزم
يتذكّر الكثيرون كيف وبّخ الرئيس الفرنسي جاك شيراك أحد وزرائه لأنّه تكلّم بلغة غير الفرنسيّة في احدى الندوات الصحفيّة خارج بلاده. هذا الموقف وغيره هو سليل تيّار متجذّر في النخب السياسيّة والثقافيّة الفرنسيّة رفع منذ عقود شعار "الإستثناء الثقافي الفرنسي" الذي أطلقه وزير الثقافة المفكّر أندريه مالرو في الخمسينات، اذ لطالما كان الدفاع عن اللغة الوطنيّة من أهمّ أولويات المثقّفين في فرنسا، وقد ساهم الكاتب آتيامبل في خلق حالة من الوعي والتيقّظ تجاه ظاهرة "الفرانجليزيّة" التي نبّه في كتاب شهيرله، من مخاطر انتشارها في المجتمع الفرنسي كنتيجة للإشعاع المتزايد للإنجليزيّة، كلغة علوم على وجه الخصوص، وبداية غزو مفردات هذه اللغة اللسان الفرنسي وتعويضها لكلمات موجودة في لغة موليير. وقد قامت حكومات فرنسا منذ السبعينات بإستحداث الهيئات والتشريعات التّي أكّدت على أولويّة اللغة الفرنسيّة في مختلف الميادين من تعليم واقتصاد واعلام عمومي وشبه عمومي واشهار وغيرها، وكان أشهرها القانون الذي صادق عليه الرئيس ميتيران سنة 1994 وحمل إسم وزيره توبون. ففي فرنسا تسهر "المفوضيّة العامّة للإصطلاح والإشتقاق" التابعة مباشرة لرئاسة الوزراء بالتعاون مع مؤسّسات عديدة أخرى على ابتكار ترجمات للمفردات الجديدة التي قد تظهر بالأنجليزيّة، ونشرها قبل ان تصير شائعة الإستعمل ويصعب التخلّص منها. اذ يُمنع مثلاً على المحلاّت ان تضع لافتات لا تحتلّ فيها الكتابة الفرنسيّة المكان الأبرز، وتُلزَم وسائل الإعلام العموميّة، أو الخاصّة التي تتلقى مساعدة مالية من الدولة، بإستعمال الفرنسيّة دون سواها، كما يجب ان تتضمنّ كلّ التظاهرات والمؤتمرات التي تُعقد في فرنسا ترجمة باللغة المحلّية وان كان منظّموها أجانب، وغير ذلك من الأمثلة التي لا تُحترَم في بلادنا رغم وجود بعض القوانين الخاصّة بذلك. نفس الشيء تقريبًا في مقاطعة الكيباك الكنديّة حيث سنّ رئيس وزرائها رينيه ليفاك سنة 1977 قانون "عدد 101" الشهير الذي أعاد للغة الفرنسيّة مكانتها كلغة رسميّة أولى رغم انّ 20 بالمائة من السكّان انغلوفونيّون. هكذا تدافع الأمم المتقدّمة عن لغتها وهويّتها الثقافيّة دون ان يجعل منها ذلك بلادًا متعصّبة، ولمن يجادل بانّ الفرنسيّة لغة منتشرة عالميًا ومواكبة للتطوّر العلمي على عكس العربيّة وأنّه من الطبيعي ان تكون لها مناعة ومرونة أكبرَين، هناك مثال الدول الآسكندنافيّة حيث يتقن معظم السكّان الإنجليزيّة لكنّك لن تسمع سويديًا يتكلّم لغة خليطًا من لغته الأمّ والأنقليزيّة مثلاُ، لأنّ السويديّون معتزّون بلغتهم ولأنّ حكوماتهم الديمقراطيّة المعبّرة في سياساتها عن هذا الشعور بالإعتزاز القومي، تسنّ بدورها القوانين وتشجّع الإنتاج الثقافي للمحافظة على لغة شعبها.
اعادة الإعتبار للعربيّة فصيحة وعاميّة
يؤكّد الدكتور الذوّادي في كتابه حول تخلّف اللغة العربيّة في بلادنا انّ استعادتها لمكانتها كلغة وطنيّة يحترمها أبنائها قبل غيرهم، هو أمر مرتبط بشكل عضوي بحجم ارادة "القيادة السياسيّة" وعدم تذبذب سياساتها في هذا المجال ، فلا عجب ان ترافق تدهور حال لغتنا الوطنيّة مع تدهور وضعنا السياسي وانسداد آفاق التغيير وسبل التنافس الديمقراطي، الذي من شأنه ان يقوّم الأوضاع غير السليمة ويصلح الأخطاء والنقائص، اذ لو كانت لدينا حريّة اعلام لما انفرد البعض ب"إمتياز" فتح اذاعة أو تلفزة خاصّة ولأستطاع مثقّفون واعلاميّون تونسيّون مقتدرون من اسماع النّاس صوتًا ثقافيًا أقلّ بحثًا عن الربح التجاري وأكثر اهتمامًا بجودة وأصالة المحتوى. هذه الواقع الرديء لا يمكن ان يعفي النخب المُثقّفة من تحمّل مسؤوليّتها في الحفاظ على هويّة البلاد، لكن على بعض هذه النخب ان تحسم أمرها تجاه اللغة العربيّة وتقتنع بأنّها لا تتعارض مع قيم الحداثة والتقدّم، فهذه القيم ليست حكرًا على ثقافة دون أخرى وان تقدّم بعضها على غيرها، فلدينا في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة أمثلة مشرقة لمفكّرين وفلاسفة أسّسوا لحداثة عصرهم باللسان العربي لعلّ ابرزهم كان ابن رشد الأندلسي، كما لا يخلو تاريخنا المعاصر وحاضرنا من المثقّفين التقدّميّين الذين حملوا لواء الحداثة بلسان عربي فصيح ورشيق، من جبران خليل جبران الى أبو القاسم الشابّي الى نزار قبّاني الى سماح ادريس صاحب مجلّة الآداب اللبنانيّة. كما يتطلّب الأمر من بعض النخب "القوميّة" الأخرى ان تغيّر من نظرتها الى الدارجة أو العاميّة التي يتكلّمها عامّة النّاس، لأنّه من الواضح انّ النظرة الدونيّة لهذه "اللغة" نفّرت الكثيرين من اللغة الفصيحة (أو الفصحى)، وجعلتهم يفضّلون عليها الدارجة التي يتكلّمونها في حياتهم اليوميّة لحرارتها والتصاقها أكثر بأحاسيسهم، الى درجة جعلت البعض يجادل، عن قصد أو عن جهل، بأن لا علاقة بين الفصيحة والدارجة وانّ هذه الأخيرة هي خليط للغات مختلفة متناسين انّ الأولى كانت على مرّ التاريخ المكوّن الأساسي للثانية والمصدر الرئيسي لألفاظها.
كما انّ تراجع مكانة اللغة العربيّة في وسائل الإعلام المحلّية التّي يتابعها عامّة الناس أدّى الى احتلال الفرنسيّة، وبشكل متزايد الأنجليزيّة، دور الخزّان الذي يزوّد النّاس بالمصطلحات الجديدة التي يحتاجونها في حياتهم اليوميّة. ورغم تأكيد تقريرالأمم المتحّدة لسنة 2003 حول التنمية البشريّة العربيّة على مرونة وثراء اللغة العربيّة وقدرتها الفائقة على الإشتقاق والمساهمة في "توليد المعرفة"، فإنّ التخلّف العلمي والتكنولوجي بالوطن العربي يضاعفان من التبعيّة الى اللغات الأجنبيّة، ويسهّل اللجوء اليها لإستيراد المصطلحات التقنيّة، وهي ولاشكّ أسباب تضعف العلاقة المتينة بين الفصيحة والدارجة في أذهان عامّة الناس.
انّ تجربة التعريب في بلادنا على نقائصها، أثبتت انّه يمكن ان يتحدّث التونسيّون دارجة أصيلة ملتصقة بالفصيحة وتنهل منها قبل غيرها لضمان تطوّرها، لغة عاميّة هي اقرب ما يكون الى دارجة عبد العزيز العروي وعلي الدوعاجي..، اذ صار من الواضح في أوائل التسعينات انّ هذا الخيار بدأ يؤتي ثماره وانّ النّاس أصبحوا أكثر استعمالاً للعربيّة في حياتهم اليوميّة، وقد ساهمت مجهودات ومواهب اعلاميّين وفنّانين متألّقين ككلثوم السعيدي وآدم فتحي ولطفي بوشناق وغيرهم في مصالحة التونسي مع لغته الأمّ، قبل ان تأتي العشريّة الأولى بعد السنة الألفين وتتراجع السلطة بشكل غير مُعلَن عن التعريب، بعد ان تحسّنت علاقاتها مع الحكومة الفرنسيّة، مفسحة المجال لوسائل اعلام تفتقر الى المضمون والى الرؤية الثقافيّة الجادّة و لايهمّها سوى الربح المادّي السريع. لا شكّ اذن انّه قد دقّ ما يكفّي من أجراس الإنذار ليتحمّل هؤلاء وغيرهم من مثقّفين من طينة جلّول عزّونة وأمّ زياد وعبد اللطيف الفوراتي وتوفيق الجبالي وجليلة بكّار ورشيد خشانة وسنية مبارك وبحري العرفاوي والحبيب الحمدوني.. وغيرهم ممّن أبدعوا بلغة الضاد فصيحة أم عامّية، مسؤوليّاتهم كنخبة وطنيّة مستنيرة في الدفاع عن لغة بلادهم. وكلّ رجائنا ان نسمع قريبًا بتأسيس هيأة للدفاع عن اللغة العربيّة في تونس تجتهد بمختلف الأشكال والوسائل في حماية ثقافتنا الوطنيّة من الرداءة.. والإندثار.
غسّان بن خليفة