الخميس، سبتمبر 23، 2010

تأمّلات...

وأخيرًا! تجد نفسكَ امام خانة تحرير النصّ على شاشة حاسوبكَ. حقّقتَ إنجازًا هائلاً: تنقّلت من المبنى الذي حضرت فيه درس علم الإجتماع بواسطة المترو، ونجحت في تخطّي تلك الجيوش البشريّة الجرّارة في طريقك من المحطّة الى ملجئك غير السرّي (الذي تعمّدت ان تختاره هذه المرّة غير بعيد عن قاعة الدرس الموالي ربحًا للوقت. أحسنتَ واصل!) في إحدى طوابق المبنى "جي". وقبلها إستطعتَ ان تمرّ الى "المطعم" وتشتري شيئا لتأكله ( تخلّيت عن موقفك العدائي من "السوشي" الياباني، لأنّ نفسك عافت طعم السندويتشات بالدجاج وغيرها من المتشابهات).

ها أنتَ اخيرًا تخضع لرغبتكَ الجامحة في الكتابة "الذاتيّة". رغبة عادت إليك في الفترة الأخيرة. تحسّ بحاجة كبيرة كي تكتب. لماذا؟ لا تدري تحديدًا. تقول لنفسك ربّما لأنّك بحاجة الى ان "تفرّغ" ما في رأسك من افكار لا تجد لها مكانًا في نقاشات السياسة على الفيس بوك ولا في البيت أو في الجامعة. ربّما هي ايضا تعبير عن حاجة لتعبير إبداعي ما... وربّما هي ايضا مجرّد إشباع لنجرسيّتكَ لا أكثر ولا أقلّ.

لكنّك في المرّات السابقة تخلّيتَ عن هذا الترَف لأنّه كان عليك ان تكمل مسودّة ورقة للنقاش أو مقالا يجب ان يُنشَر غدًا أو ردًا على رفيق في نقاش تقدّر أنّه لا يجب ان يتأجّل أكثر... لكنّك بعد كلّ مرّة تحسّ بشيء من الندم يصاحب شعورك بالرضى لأنّكَ غلبّت عقلكَ و"أولويات المرحلة" على حاجاتك الذاتيّة... هذه المرّة لم تقوَ على المقاومَة.

يدأت الأفكار تضطرم داخل رأسكَ وأنت تغادر مسرعًا المبنى. خرجت من قاعة الدرس دون ان تتنظر صديقك الإفريقي الجديد. تشعر - محقًا- بأنّكَ ستضيّع الكثير من الوقت معه ولن تستطيع ان تنهي بعض المهام العاجلة قبل بداية الدرس الموالي. صديقكَ "ج." وصل قبل أسابيع قليلة الى مونتريال وهو يتلمّس طريقه بصعوبة في تجربته الجديدة. صحيح أنّكَ قدّمتَ له نصائح - تعتقد أنّها - مفيدة. وأنّكَ أعطيته عنوان ايمايلك كي يراسلكَ عليه مذكّرًا ان ترسل له نسخة من "السيرة الذاتية" المهنيّة الخاصّة بكَ. فهو يحتاج الى إعادة صياغة هذه الوثيقة على الطريقة الشمال أميكريّة المختلفة عن مثيلتها الفرنسيّة. هكذا أعلمتكَ زوجتكَ عندمَا تقدّمتَ لأوّل عمل هنا قبل ثلاث سنوات.

أحسست بتأنيب الضمير: كيف تفعل ذلك؟ كيف تهرب من صديق ربّما يحتاج اليكَ؟ لماذا؟ تجيب نفسك: لأنني بحاجة الى شيء من الوقت لأرسل دعوات للجسلة العامّة الخاصّة بالجمعيّة المناصرة لفلسطين التي تنشط صلبها بالجامعة. يعني تبرّر لنفسكَ هذا التخلّي عن هذا الصديق بنبل تلك القضيّة. ورغم وعيكَ بذلكَ لا تتوقّف عن السير بل تواصله مسرعا نحو محطّة الميترو. هناك تعترضك لافتة صغيرة كتب عليها بالفرنسيّة انّ "التسكّع ممنوع في هذا المكان". بعدها بخطوات قليلة تجد شقيقة لهَا تعلمكض بأنّك في رواق تجاري مراقب بالكاميرات. تحسّ بثقل النظام الرأسمالي في هذا المكان. أنتَ مرحبٌ بكَ فقط اذا كان عندكَ أموال تشتري بها اشياء لا تحتاجها غالبًا. لا غاية لوجودكَ هنا غير الإستهلاك.

لكنّكَ تفكّر أنّكَ ربّما بدوركَ صرت "ضحيّة" لهذا النظام. فماذا يعني أنّك تصير مهووسًا بالتحكّم في وقتكَ الى حدّ ان تهربَ من صديقكَ؟ آيُعقَل أنّ هذا النظام الطي تدّعي أنّك تتنقده وتحلم بتغييره قد اثرّ فيكَ الى هذه الدرجة؟!


تفكّر في كلّ ذلك وأنتَ واقف في صفّ طويل نسبيًا إنتظارًا لدوركَ كي تسحب مالاً من ماكينة صرف. نعم أنتَ بحاجة لهذه الآلة كي تأكل. تقول لنفسكَ أنّك بحاجة فعلاً للكتابة هذه المرّة.

تحاول إتمام هذه السطور عندما يخرج لكَ من العدم "صديق" آخر لم تكن ترغب في رؤيته الآن... تقرّر ان تنشر ماكتبتَ دون مراجعته وقبل تغيير معطياتك الشخصية ومن دون حتّى ان تمهّد لغيابك المطوّل عنها بنصّ تمهيدي... لا يهمّ. أنتَ تشعر بشيء من الراحة الآن.