الخميس، أفريل 17، 2008

فضيحة نقابة الصحفيين في مصر- سبب آخر لضرورة العلمانية في مجتمعاتنا

بإيجاز شديد نظرا لضيق الوقت، أودّ لفت الإنتباه الى الفضيحة "بجلاجل" التي عرفتها نقابة الصحفيين في مصر، وهي قلعة من قلاع حرّية التعبير في هذا البلد العربي العريق. هذا البلد، للأسف الشديد، يشهد منذ عقود ردّة فكريّة واجتماعيّة وثقافية مصاحية لتواصل النظام الإستبدادي للعجوز حسني مبارك، الذي يصرّ على مايبدو توريث الحكم لإبنه. وواضح انّ هذا النظام، ككلّ الزنظمة الديكتاتوريّة الرعناء في منطقتنا لا تتوانى عن فعل ايّ شيء من أجل البقاء في الحكم، وان مرّ ذلك عبر السباحة على موجة التديّن التي تشهدها مجتمعاتنا في اسنوات الأخيرة. وهو ما يفسّر غضّ نظر النظام المصري عن تسلّل المحافظين الى مواقع هامّة في القضاء والتعليم والإعلام، بل وحتّى الى صفوف "الحزب الوطني" الحاكم، كما يمكن ان نستشّف ذلك من مواقف بعض أعضاءه ونوّابه في البرلمان المصري...

النظام المصري يتبّع في ذلك تكتيكا معروفا، وهو اللعب على عامل الخوف لإدامة الحداثيين المصريين تحت رحمته، وليريهم انّه لا بديل لهم عن حمايته من الإخوان المسلمين. وذلك لمنعهم من التحالف مع هؤلاء ولحمد اللّه على انّهم تحت استبداد مبارك، الذي يسمح لهم على الأقلّ بممارسة قناعاتهم وأفكارهم وأساليب عيشهم في هوامش ضيّقة - في بيوتهم وبعض المنابر الإعلاميّة النادرة- خير من الإستبداد المتوقّع بإسم الدين للإخوان ان وصولوا الى الحكم. وهذا تكتيك متبّع ايضا في تونس، حيث تلعب السلة على نفس الوتر لتجيير العلمانيين وتخويفهم من مجرّد الإقتراب من الإسلاميين وان أبدى هؤلاء رغبة في الإعتدال والتعايش.

لكن للأسف، هذا الوصف لا يمكن ان يغنينا عن الإشارة والتنديد بالدور الخطير والغبيّ الذي يلعبه الإسلاميّون في مصر - وتحديدا تنظيهم الرئيسي الإخوان المسملون-، الذين لا يفوّتون فرصة ليثبتوا مدى عجزهم عن التطوّر وعدم قدرتهم على صياغة فكر وخطاب ديمقراطي حقيقي، يفوّت الفرصة على نظام مبارك وعلى كلّ الذين يستغلّون غبائهم كتبرير لحرمن منطقتنا من الديمقراطيّة.

المهمّ، اليكم روابط الى برنامج تلفزيوني (من قناة المحور) يشرح ماجرى في نقابة الصحفيين على ألسنة أطراف القضيّة والى بعض الصور وتسجيل فيديو (من نشرة م الآخر) عمّا حدث منذ أيّام قليلة.

وهذا خبر مكتوب (من جريدة البديل) عن تفاصيل ما جري:

جمال عبدالرحيم تصدي للمنظمين «بالشومة».. و النقيب يعتذر عن عدم عقد المؤتمر ..والتجمع يستضيفه

ابتسام تعلب- خليل أبوشادي- سامح حنين
اعتذر مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين عن عدم استضافة نقابته المؤتمر الأول لحركة «مصريون ضد التمييز الديني» بعد الأزمة الحادة التي شهدتها النقابة أمس في اعقاب منع عدد من الصحفيين للقائمين علي المؤتمر من دخول النقابة.
وعقد نقيب الصحفيين مؤتمراً صحفياً أعلن خلاله عدم تمكنه من استضافة المؤتمر بسبب اعتراض عدد من أعضاء المجلس لاسباب غير مقنعة -علي حد قوله.
وقال مكرم: «اعتراضهم جاء دفاعاً عن الإسلام وتخوفاً من حدوث صدامات محتملة داخل النقابة».

وأضاف «فكرت في اللجوء إلي النائب العام لانهاء الأزمة ولكني استبعدت فكرة الاستعانة بالامن داخل النقابة».
وتابع مكرم «أنا مجرد صوت منفرد في مجلس النقابة وعلي أن أقود حملة لكسب الرأي العام لمواجهة الصحفيين السبعة المعترضين علي إقامة المؤتمر ولا يريدون سماع وجهات النظر الاخري ولا يؤمنون بالحرية».
وقال نقيب الصحفيين «لا أستوعب رفضهم لهذا المؤتمر بعد أن فتحت النقابة أبواها لمؤتمرات التيارات السياسية المختلفة مثل «كفاية».
مضيفاً أنه سوف «يناضل» من خلال مجلس النقابة لعقد المؤتمر وفتح تحقيق حول ما يدعيه الصحفيون السبعة حول موافقة إداريين في النقابة علي دخول قناة إسرائيلية للتصوير داخل النقابة.
وقال المهندس ناجي أرتين منظم المؤتمر «تلقيت اتصالاً هاتفياً صباح أمس قبل موعد المؤتمر بساعات.
من إحدي القنوات الفضائية اخبروني بمنعهم من إدخال كاميرات التصوير المخصصة لتغطية المؤتمر من قبل 7 صحفيين بعضهم أمسك «شومة»، وأضاف آرتين بعد وصولي النقابة تم منعي من قبل الصحفيين وعلي رأسهم جمال عبدالرحيم عضو مجلس النقابة ومعه صالح رجب وماجد علي وآخرون كانوا قد امضوا الليل بالنقابة وحضر نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد ووقعت مشادة بينه وبينهم ومنعوه من دخول النقابة في البداية، وتم عقد اجتماع طويل معهم حضره مصطفي بكري رئيس تحرير جريدة الأسبوع والدكتور سامر سليمان عضو الحركة، وقال سامر سليمان: إن الصحفيين السبعة أبلغوا النقيب رفضهم لعقد المؤتمر بسبب وجود البهائيين ضمن الحضور، وروجوا بعض الأكاذيب حول قيام قناة إسرائيلية بتغطية المؤتمر، وأضاف سامر: «هناك محركون خلف الستار ومصطفي بكري رفض الحديث أثناء اللقاء، ومحمد عبدالقدوس مقرر لجنة الحريات والذي كان موجودا في الصباح احتفي من النقابة».
وقال جمال عبدالرحيم خلال المؤتمر الصحفي: رفض عقد المؤتمر يستند لرفض وزارة التضامن إشهار منظمة «مصريون ضد التمييز الديني»، واستضافة المؤتمر للبهائيين، وكذلك رفض كل أعضاء مجلس النقابة ماعدا حاتم زكريا لعقد المؤتمر، وأضاف: أنه وزملاءه تأكدوا من اتفاق النقابة مع إحدي القنوات الإسرائيلية علي تغطية أعمال المؤتمر.
واتصل ناجي آرتين هاتفيا بالشرطة وطلب تحرير محضر إثبات حالة لإثبات قيام سبعة صحفيين بتعطيل تنفيذ العقد الموقع مع النقابة بعقد المؤتمر، ورفضت قوات الأمن المتواجدة أمام مبني النقابة وقوف أعضاء الحركة في الشارع، ونبهت عليهم ألا يتجاوزوا حدود سلم النقابة.
في سياق متصل عقدت حركة «مصريون ضد التمييز الديني» مؤتمرا صحفيا بحزب التجمع أعلنت فيه علي لسان طلعت فهمي عضو الحزب، ومن مؤسسي الحركة ترحيب كل من الدكتور رفعت السعيد، رئيس الحزب، وسيد عبدالعال، أمين عام الحزب بعقد المؤتمر داخل حزب التجمع وهو ما يحدث بالفعل.
وفي أولي جلسات المؤتمر بحزب التجمع قال فؤاد رياض عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان: هذا المؤتمر هو بداية لمشروع نادي به المجلس القومي والذي كان ينوي عمل عام 2008 عام المواطنة، وأنا أختلف مع نقيب الصحفيين في اعتباره مسألة حقوق الإنسان مسألة سياسية تقبل الرأي والرأي الآخر، وذلك حينما قال مكرم إن المؤتمر كان ولابد أن يعقد داخل النقابة التي تجمع بين الرأي والآخر، مضيفا أن الدفاع عن حقوق الإنسان لا تقبل الرأي الآخر.
وأضاف أن التمييز هو سرقة حق وحياة وحرمان شخص مناسب لصالح شخص غير مناسب وهو ما يجعل من الشخص كارها للدولة واصفا ذلك بالجريمة.
وتابع رياض: القانون الدولي يسمح للمجتمع الدولي باختراق حدود أي دولة تنتهك حقوق الإنسان، وفرض عقوبات عليها حال ممارساتها للتمييز، لافتا إلي أن المشكلة الأولي في مصر هي عدم سيادة القانون مطالبا بسيادة القانون لمنع عمليات التمييز، وقال إن المشكلة -التمييز- مختلقة ولم تكن موجودة بالمجتمع المصري.
وقالت كريمة كمال ـ الصحفية ـ إن نقابة الصحفيين تم اختطافها من قبل ثلاثة فقط، لافتة إلي أن البلد من الممكن أن يخطف بنفس الطريقة من أصحاب الصوت العالي الذي يثير الناس وقالت إن أجهزة الأمن نفسها تمارس التمييز والسلفيون والإخوان المسلمين مستفيدون من هذا التمييز.
فيما أشار عماد الدين أبوغازي عضو المجلس الأعلي للثقافة إلي أنه كما يوجد في مصر جماعة ضد التمييز الديني فهناك أيضا جماعة مع التمييز الديني.

السبت، أفريل 05، 2008

تحويل الصراع على اللغة الى صراع على الهويـّة\ د. عزمي بشارة


في نفس السياق المتعلّق بمسألة اللغة العربية والهويّة في تونس وغرها من البلدان العربية، اليكم هذا المقال القيّم للمفكّر الفلسطني الكبير عزمي بشارة

تحويل الصراع على اللغة الى صراع على الهوية..

05/07/2007 د عزمي بشارة

ليس الاختلاف في الرأي تشرذما أو فرقة ولا التعددية انشقاقاً، بل هما من عناصر غنى الأمة الديموقراطية، فالأمة الديموقراطية ليست مولودا عضويا موحدا بل نتاج تفاعل التعددية والاختلاف في إطار سياسي واحد ذي سيادة وجهها الآخر هو المواطنة. ولكن ما يخشى عربياً هو التشرذم والفرقة والانقسام داخل الكيانات السياسية اذا تحول الخلاف إلى صراع هويات تمثل مصالح صيغت بشكلٍ لا يمكِّنها من العيش في إطار سياسي واحد، ومنها الطائفة والقبيلة وغيرهما إذا سيِّست.

وكأن هذه الجماعات العضوية القائمة لا تكفي نجدنا من ناحية أخرى نحول بأيدينا فوارق واختلافات وصراعات طبقية واجتماعية لا علاقة لها بالهويات الى هويات وثقافات وانتماءات وذلك بفعل زج عناصر أخرى مثل الفجوة في الثقافة والتربية. بأيدينا نقترف ببلاهة جريمة خلق فرقة غير قائمة.

وفيما ننظر من حولنا بذهول إلى حالة تشرذم السياسة العربية تجري الحياة اليومية وتعيد انتاج مقومات الفرقة والانقسام، ولكنها لا تلفت النظر عندما لا تكون سياسية صارخة أو طائفية أو عشائرية.

خذ مثلا مسألة اللغة العربية، ولا أقصد هنا تعدد اللهجات العربية أو تطور الفصحى، بل أقصد تحول اللغة العربية واستخدامها الى إشكال اجتماعي بدأ يحول فئات اجتماعية متباينة طبقياً إلى ثقافات متباينة. يجري هذا باتجاه معاكس لصيرورة أخرى إيجابية بفعل توحيد وسائل الاتصال للسوق الاعلامي. فهي تنتج موضوعيا لغة موحدة تتموضع ما بين المحكية والفصحى وتقرب اللهجات من بعضها بعضاً في الوقت ذاته.

ويصعب على مواطن ياباني أو فرنسي أو ألماني أو حتى اسرائيلي أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو إسرائيليين ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم. فهذا أمر طبيعي وبديهي بنظر مواطن تلك البلاد ومطلوب حتى من المهاجر في بلده، فكم بالحري ممن ولد فيها؟ ولكن في بعض أوساط الطبقة الوسطى العليا في بعض الدول العربية من فاق اليابانيين والفرنسيين والكوريين والألمان تطورا. وبات استخدام الانكليزية في البيت والمدرسة وبين أهل عرب وأبنائهم في بلد عربي حالة منتشرة. وهي تؤسس لتحول الخلاف السياسي والطبقي والاجتماعي الى خلاف حضاري يحولنا إلى أكثر من شعب في البلد نفسه. نحن نؤسس بأيدينا لأن تصبح خلافاتنا في المستقبل حرب ثقافات. وحتى حيث لا يوجد سبب بين لذلك أو أساس موضوعي لذلك، فنحن نتكفل بصنعه.

يُكثر العديد من مدعي التنور العرب الحديث عن التفاعل بثقة مع العولمة بدل اعتبارها مؤامرة على العرب، والنهي عن الاحتجاج عليها والحث على الأخذ من الحضارة الإنسانية بفعل التفاعلات الكبرى الجارية في العلوم وفي اقتصاد السوق والحاجات الاستهلاكية وانماط المعيشة وغيرها، وأن نسأل انفسنا ماذا نقدم كحضارة للحضارة الانسانية في هذا العصر. وهذا حسن، ونحن نؤيد هذه النزعة لطرح هذا النوع من الأسئلة. ولكن كل الشعوب والدول التي ترفض إدارة الظهر للعولمة العلمية والتقنية والاقتصادية وتتفاعل معها وتتطور وتطوِّر مساهمتها من خلال ذلك بنماذج مثل اليابان وكوريا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى إسرائيل العنصرية إنما تفعل ذلك بلغاتها هي. وتبقى الانكليزية لغة ثانية يفترض أن يتقنها المتعلمون طبعاً.

ويبدو لي ان المجتمع الذي لا ينجز ذلك في بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع ولا يتطور معها بل يقلد ولا يبدع، ويكرس تخلفه وتخلف مجتمعه. من لا يتفاعل مع العولمة ولا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته يبقى على هامش الحضارة الانسانية ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك يحجب التطور عن لغته ذاتها. فاللغة، ومعها المفاهيم والثقافة، لا تتطور اذا أقصيت عن الاستخدام في المجالات الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار مثل العلوم والفنون والاقتصاد، وإذا اقتصر استخدامها على الأدب والمقالة والخطابة مثلا. نحن نجد أنفسنا أمام وضع يتخرج فيه طالب جامعي من جامعته من دون أن يقرأ مقالا علميا واحدا بالانكليزية من جهة، ويتخرج آخر لا يتقن العربية من جهة أخرى ولم يستخدمها أصلا كلغة دراسة وتدريس منذ المدرسة الابتدائية. وكلاهما وجهان لعملة التخلف العلمي والاجتماعي نفسها.

«حتى» في الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وكندا يتم التعليم والبحث والتدريس باللغة الأم، وهي في تلك الحالة اللغة الانكليزية. وعندما يستخدمها السكان لا يقلدون بذلك أحدا. إنها لغتهم الأم. وفي داخل كندا ذاتها، في إقليم كيبك يصر الناس على التعامل اليومي والرسمي والتدريس والتربية والبحث بالفرنسية.

يندب أبناء الطبقات الوسطى العليا العرب حال الجامعات والمدارس العربية ويتذمرون من وجود الجامعات الاسرائيلية الست بين الألف جامعة المصنفة أولى في العالم، وغياب الجامعات العربية عنها كافة. ويعكف بعضهم على بناء مدارس وجامعات خاصة تدرِّس بلغات أخرى غير العربية معتقدين أن هذا هو الحل.

توجد في إسرائيل جامعات خاصة وجامعات رسمية تابعة للدولة. وكلها تدرس بالعبرية، فقط بالعبرية. وسميت الجامعة الاولى الجامعة العبرية وليس اليهودية أو الإسرائيلية، نسبة الى اللغة والثقافة التي تريد احياءها وتطويرها من خلال التدريس بها والبحث العلمي بواسطتها. والجامعات الست المرموقة، بما فيها كلية الهندسة التطبيقية، هي العامة التابعة للدولة، لأن الدولة فقط تتمكن من رعاية البحث العلمي بهذه الكثافة، اما الجامعات الخاصة فهي كليات تدريس ومصانع شهادات في مواضيع مهنية غالباً. الحالة مختلفة في الولايات المتحدة طبعا حيث رأس المال المستثمر في التعليم الخاص والصناعة في الوقت ذاته، ولكن ليس هذا موضوعنا.

ولا توجد في إسرائيل مدرسة واحدة تدرس بغير العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفارات الاجنبية. فالعبرية في حالتهم ليست مجرد تواصل بل أداة بناء الأمة. وهي لغة لم تستخدم قرونا عديدة في الحياة اليومية وعندما نفض عنها الغبار كانت أقدم وأقل مرونة وغنى من العربية بفعل تحنيطها في الكتب المقدسة والتلمود وبعض الشعر، ولكن استخدامها بهذه الكثافة في العلوم والفنون والتعامل اليومي وفي إنتاج الحداثة بشكل عام فتحها للتطور. ونحن لا نود التوقف كثيرا عند هذا الموضوع، بل نود أن نؤكد فقط أن كلاً من التعليم الرسمي والخاص في اسرائيل يستخدم اللغة العبرية.

ليست الحالة الإسرائيلية نموذجا يقتدى بالضرورة، ولكني أجلب هذا المثل لأن المتغرِّبين العرب عموما مندهشون من إنجازاتها رغم كونها كولونيالية، وتصل الدهشة أحيانا حد الإعجاب كتعبير كسول عن نفور من الحالة العربية، وذلك من دون معرفة بالتجربة الإسرائيلية ذاتها ومن دون استعداد لمواجهة استحقاقات مثل هذه التجربة...

وخبراء التخطيط الأميركيون أنفسهم الذين يمتدحون التجربة الإسرائيلية في التعليم أمام مستمعيهم العرب، لا يستوقفهم أن الطالب الإسرائيلي يخرج من هذه التجربة بانكليزية مكسرة ومضحكة كلغة ثانية، ويشجعون الانتقال للتدريس بالانكليزية عند العرب... نقطة للتفكير.

ومن معرفتي بمناهج التدريس الرسمية في مدارس لبنان والأردن ومناطق السلطة الفلسطينية فإنني اعتقد أنها لا تقل جودة عن الإسرائيلية وحتى الأميركية، أن لم تكن أجود. ولا استبعد أن يسري هذا الحكم على دول عربية أخرى لا أعرف مناهجها. الفرق في حالة إسرائيل هو في الاستثمار المالي والاجتماعي الرسمي في التعليم، وحجم هذا الاستثمار من الموازنة وتوزيع العبء التخطيطي بين البلدية والحكم المركزي واهتمام أولياء الامور.

وكلما زادت الفجوة الاجتماعية في إسرائيل نشهد مظاهر تردي التعليم كما في بلدان العالم الثالث وكما في حال المدارس المتوفرة لأبناء الطبقات الفقيرة في الولايات المتحدة. وعلى كل حال لا يكمن الحل بإقامة مدراس جديدة للنخبة تدرس بمنهج آخر ولغة أخرى غير العربية. فهذا يفقر ويقلل الاهتمام بالتعليم العام، ويسحب منه الطلاب والمعلمين الجيدين والأكفاء ويفقر اللغة. وإذا كان هذا كله لا يكفي، نضيف الامر الحاد الذي بدأنا به هذا المقال أنه يحول الفئات الاجتماعية المتفاوتة طبقيا الى ثقافات تكاد تكون شعوبا تتكلم لغات مختلفة وتتباين في الفضاء الثقافي والذوق والعاطفة وحتى في روح الدعابة. وطبعا تهيمن ثقافة الطبقة على من يقدم لها الخدمات حتى لو كان نادلا في مطعم أو سائقاً فإنه يجد نفسه يتكلم الإنكليزية المكسرة متباهيا دونما حاجة، لأن من يتكلم معهم يتقنون العربية مثله ولا يتقنون الانكليزية مثله أيضا.

لا يجارينا في هذا الوضع سوى الهنود. وقد يفطن أحدهم الآن بعد أن ذكرته فيعيرني قائلاً: أنت تناقض نفسك، فالأخيرون باتوا يبدعون في العلوم. هذا صحيح، ولكن الإبداع الرئيسي الذي يتفوقون فيه هو في علوم هي لغات قائمة بذاتها مثل الرياضيات وعلوم الحاسوب. وهنالك طبعا آلاف الهنود الذين يبدعون في العلوم والفنون والآداب في سياق آخر ودول أخرى في الغرب مثل آلاف العلماء العرب الذين يبدعون في الخارج. يجري هذا في سياق ثقافي مختلف تماما، ولا يعني إطلاقا مساهمة عربية في العلوم والفنون. ولا يعني مساهمة في تطوير الثقافة العربية أو المجتمع العربي. فمساهمة العربي التي نعتز بها في فرنسا أو أميركا فرنسية أو أميركية أو هي على الأقل جزء من التنوع القائم في فرنسا أو أميركا، ومن إنجازات مؤسساتها الأكاديمية والثقافية، ولا مانع بعد ذلك من الافتخار لمن يريد.

في مراحل النهضة العربية الواعدة كان أبناء الطبقات الميسورة يصلون حتى الى جامعتي اكسفورد وكامبردج وغيرهما بلغة عربية كلاسيكية وانكليزية ممتازة، ويتخرجون ويبدعون بلغتهم الأم، وقد تطوروا بالعربية، وطوروا اللغة العربية. وكان هذا من معالم النهضة.

ونحن لا نعتبر هذا النموذج مقدساً، ولا يجوز التعصب، فلا يضير أحدا ان يستخدم تعبيرا بالانكليزية من علم من العلوم في كلامه لغرض الدقة ثم يترجمه فورا بعد ذلك مفتتحا حوارا أو على الاقل تفكيرا حول أفضل ترجمة له. لا مشكلة في إدخال تعبير هنا وتعبير هناك من اللغات الاجنبية في الكلام في إطار السعي لإيجاد مرادف عربي.

أما النفور من العربية من دون إتقان الانكليزية ولا غيرها فهو مؤشر على إمكانية انحلال وليس دليل نهضة. والأهم من ذلك أن ما يجري دونما حاجة هو زرع بذور نبتة شقاق سامة بين ثقافتين متباينتين. ما فعله المستعمرون الفرنسيون في الجزائر حوَل الصراع الاجتماعي بعد عقود الى صراع ثقافي دموي ترافقه أزمات هوية حادة وردود فعل عصابية جماعية، نقوم نحن بصنعه بأنفسنا في مرحلة الانحلال هذه.
نقطة للتفكير.

الخميس، أفريل 03، 2008

ردّ سريع علي مقولة " اللوغة التونسية"...

هذا ردّ طويل نسبيا على تدوينة لسي طارق الشنيتي هنا ، تتعلّق بمقولة " اللغة التونسية"، وهي في الحقيقة عودة الي موضة قديمة، ظهرت منذ السبعينات، وفشل أصحابها في اقناع المجتمع بها. اذ يذكر انّ مجموعة " العامل التونسي" - مجموعة ماركسية لينينة من أقصى اليسار-، تبنّت في مرحلة ما مقولة الأمّة التونسية والهويّة التونسية، بل وذهبت الى اصدار جريدة بالدارجة، اعتقادا منها انّها بذلك ستصل بشكل أكثر سهولة الى عقول وقلوب الفئات الشعبية. لكن مع الوقت، اتضّح لهذه المجموعة، مدى طفوليّة الفكرة وانّ الشعب التونسي هو بحكم التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة جزء لا يتجزّأ من محيطه العربي، وانّه لا يمكن التعسّف علي دارجة ذات أصول عربية واضحة وتحويلها رغما عنها الى لغة حقيقيّة.

***************

تاريخيا، اللغة المالطية هي وريثة " اللنغوا فرانكا" اللي كانت سائدة في مرحلة معيّنة في موانئ البحر المتوسّط وكانت يستعينوا بيها البحّارة من مختلف البلدان باش يتفاهموا ويتواصلوا فيما بينهم. يعني بعبارة أخرى، في الأصل الأمر يتعلّق بلغة وظيفيّة، هي خليط متناثر من لغات مختلفة. وكان لهذه "اللغة" أهداف محدّدة، مثل لغة البراي بالنسبة لفاقدي البصر أو لغة الإشارات للصمّ والبكم أو لغة الإسبيرانتو... ممّا يعني ايضا ، انّ هذه اللغة ليست لغة ايّ بلد من بلدان ضفتي المتوسّط وهذا أمر طبيعي. وطبيعي ايضا، ان تتحوّل هذه اللغة الهجينة الى لغة المالطيين، الذين بدورهم خليط حقيقي من الشعوب ، نظرا لموقعهم الجغرافي في قلب البحر المتوسّط الذي جعل جزيرتهم تشهد مراحل متعاقبة من الإحتلالات كما لم يشهده ايّ بلد آخر.

الحالة المالطية هي اذن حالة استثنائية تحفظ ولا يقاس عليها. وبالتالي، لا أفهم دوافع هذا "الحنين" للغة ماعندها لاساس ولا راس كالمالطية
، والدعوة الي التخلّي عن لغة عريقة، من أكثر اللغات تداولا في العالم، ومعتمدة كلغة من اللغات الرسمية الستّ للأمم المتحدّة؟.فالعربية لغة لها قواعد صرفية ونحوية معروفة ودقيقة، وفيها من جذور الكلمات ما يسمح بإشتقاق كلّ المصطلحات الضرورية " لتوليد المعرفة" كما بيّن ذلك تقرير التنمية البشرية للأمم المتّحدة بالعالم العربي لسنة 2003.

أمّا فيما يخصّ ما ذكرته عن "لوغة تونسية" متفرّدة وما استشهدت به من كلمات، فإسمح لي بإبداء الملاحظات التالية:

- أولا، لا أرى تناقضا في الإقرار بإحتواء الدارجة التونسية على كلمات ذات أصول غير عربية وهذا أمر طبيعي وموجود في كلّ اللغات والدارجات، فمثلا هنا في الكيباك يتحدّثون دارجة فرنسية، فيها الكثير من الكلمات الوافدة من الآنقليزية، لأسباب تاريخية وجغرافية معلومة، ومع ذلك لم أسمع احدا من الكيباكيين يتحدّث عن " لغة كيباكيّة" مختلفة عن الفرنسية. وايضا اللغة الإسبانية، قرأت سابقا انّ ربع كلماتها ذي أصول عربية، فهل سمعت اسبانيا ينكر الأصول اللاتينية للغته أو يقول انّ لغته هي خليط من اللغات،؟ علما وانّنا لا نتحدّث عن دارجة وانّما عن لغة مكتملة ومنتشرة دوليا، وايضا نفس الأمر ينطبق على بلدان أميركا اللاتينية، فشعوب هذه الدول تتحدّث امّا الأسبانية أو البرتغالية بدرجات مختلفة عن اللغة الأمّ، تتفاوت من دولة الى أخرى، فهل نسمع ببرازيلي يقول انّ دارجته البرازيليّة هي لغة مختلفة عن البرتغالية؟ علما وانّ البرتغاليين يجدون بعض الصعوبة في فهم البرازيلين...

- وحتّي في الكلمات التي ذكرت، يبدو انك أغفلت، او لا تعلم، انّ كثيرا منها ذات أصول عربية واضحة. فمثلا:
كرهبة: أصلها كما يبدو من كهرباء-- لست متأكّدا ولكن قد تكون الفكرة وراء هذه التسمية هي: العربة المكهربة ربّما

- فيسع: قد تكون أصلها: في سعة، وتمّ ادغامها في عمليّة النطق

-آكاهو: واضح انّها ادغام لكلمتي: ذاك هو

- منرفز: أصلها من النرفزة وهي كلمة موجودة بالقاموس العربي. ربّما تكون وافذة، لكن ذلك أمر طبيعي يدلّ على قدرة للغة على التطوّر واستيعاب الجديد

- غناية: ماظاهرليش انّ ثمّة حاجة لتبيين العلاقة بين غناية وأغنية

- يتفرهد: ماهاش بعيدة على يترفّه...

- زليزة: من جليزة
(على فكرة، هناك أكثر من كلمة بالدارجة التونسية يتغيّر فيها نطق حرف "ز" الى "ج". مثل : زوز وأصلها: زوج - الإخوان في المغرب الأقصى ينطقونها بالشكل الأصلي مثلا- عرس بال"زازة" وأصلها : ضجّة. زغزغة: من جغجغة. وذلك أمر طبيعي وموجود في أكثر من دارجة عربية، فمثلا الفلسطينيون ينطقون القاف كاف والمصريرن ينطقون الجيم قاف - بزيادة النقطة- ولطرق النطق المختلفة أصل في اللهجات المختلفة لقبائل الجزيرة العربية، حيث لم تكن جميعها تنطق الحروف بنفس الطريقة، وهو مايفسّر ايضا لماذا عندنا ننطق كلمة " قال" بشكل مختلف بين مناطق الجنوب والشمال الخ...

- أعتقد انّ العلاقة واضحة بين قهواجي وقهوة

- برشة: أصلها عربي أصيل. فأصلها من أبرش وهو " المكان كثير العشب". كما انّ أصل شويّة : هو قطعة اللحم الصغيرة... حسب لسان العرب

- العلاقة بين قطّوس وقطّ تبدو لي واضحة ايضا...

- منقالة: اصلها من نقل وربّما تكون اصلها من المنقال - الكومبا- لما بينه من تشابه مع عقارب الساعة

السحابة: ظاهرلي واضح التشبيه التصويري-

- الشتا-- الشتاء ، وهناك من يقول المطر . وهذا يدلّ ايضا على مشكل عدم دقّة الدارجة في توصيف بعض الأشياد والظواهر وهذا أمر عادي بالنسبة للغة الدارجة، لأنّا لغة استعمال يومي وليست لغة علم وادارة وقانون ،الخ.

- لاموضة-- هناك كلمة الموضة في الفصحى، وهي كلمة وافدة

- يزّي، اصلها من يجزي: وهي مرادف ليكفي، يغني...



أمر آخر جدير بالذكر. هو انّه رغم قدرة الدارجة في التعبير عن حرارة العواطف الذاتية وعن تفاصيل الحياة اليومية، وحتّي على صياغة أدب شعبي محترم، فإنّها لا يمكن ان تضاهي ثراء الفصحي وغنى حقلها اللغوي. فللأسف الحقل اللغوي للدارجة ضعيف، وأضرب على ذلك مثلا وحيدا بسيطا: ماذا تقترح " باللغة التونسية" كترجمة لكلمة je veux?

وماذا تقترح لها من مرادفات؟

شخصيا، لا أعرف غير كلمة :"نحبّ" ، وفي ذلك كما تري تأكيد علي مدى غياب الدقّة في الدارجة التونسية، حيث تستعمل كلمة وحيدة للتعبير عن معنيين مختلفين أو أكثر
، فيما نجد أكثر من فعل بالفصحى: أريد، أودّ، أبغي، أرغب الخ.



في الختام، أريد ان أقول انّي لا أرى فائدة في محاولة نفي الأصل العربي الواضح للدارجة التونسية والسعي الى تحويلها تعسّفا الى لغة مكتملة الصفات والشروط، وذلك في اطار سعي قديم متجدّد لإحياء هويّات غابرة على أنقاض الهويّة العربية الإسلامية- بالمعنى الثقافي والحضاري وليس الديني. الأصحّ برأيي، هو محاولة مزيد العمل على تبسيط الفصحى وتقريبها من الدارجة، وهذا أمر قطعنا فيه أشواط كبيرة بفضل سياسة التعريب، على هناتها وتذبذبها، فآنظروا مثلا لغة المنشطّة المبدعة كلثوم السعيدي في الإذاعة الوطنية أو منشطّي اذاعة الشباب، سترون انّها دارجة عربية خالصة، رشيقة وجميلة ومحافظة علي خصوصيّتها التونسية. أنا لست من المحتقرين أو المهمّشين للدارجة التونسية، لكنّي ضدّ ان يتمّ استعمالها معبرا لتهميش الفصحى ولنفي الإنتماء العربي لتونس بإسم هويّات تاريخية ميّتة كالقرطاجية والبربريّة والخ. فأنا مع الإعتراف بهذه الهويّات والإعتزاز بها، لكنّي لا أرى سببا لإستدعائها من الماضي السحيق، فذلك لن يزيد شبابنا الاّ اضطرابا وضياعا فيما يخصّ انتماءه الثقافي والحضاري، وبالتالي سيزيد من تأخير حلّ القضايا الحقيقية التي تنتظرنا، كالديمقراطية والتنمية والعلمانية وغيره...