الأربعاء، فيفري 28، 2007

"شباب الملاعب" يبحث عن انتماء..غير ممنوع




"شباب الملاعب" يبحث عن انتماء..غير ممنوع

لا يجادل اثنان في انّ أكثر الأمكنة اقبالاً من الشباب في بلادنا هي المقهى والمسجد والملعب. ولاشكّ انّ لهذه الملاحظة التي قد تبدو عابرة أكثر من دلالة عميقة، اذ بيّنت نتائج الإستشارة الشبابيّة الأخيرة انّ 72 بالمائة من الشباب المُستجوَب لا يرى جدوى في الإنتماء إلى الأحزاب السياسيّة أو الجمعيّات، ممّا يؤكّد مدى ابتعاد شبابنا عن قضايا الشأن العامّ، واستبداله لهذه الأُطر المميّزة للمجتمعات الديمقراطيّة الحديثة بأخرى قد تتجاوز حجمها ووظيفتها الأصليّين. وتُعدُّ ظاهرة "الإنتماء الرياضي" والإقبال الشبابي الكبير على تشجيع الفرق الرياضيّة..الى حدّ التطرّف أحيانًا، من أبرز الدلائل على ذلك. "الموقف" تبِعت هؤلاء الشبّان إلى الملعب و"حديقة الرياضة" حيث يمارسون طقوس عشقهم الكروي، في محاولة لفهم طريقة تفكيرهم وإكتشاف سرّ هذا الولع الشبيه بالإدمان؟ ولمعرفة كيف ينظر أحبّاء "الفيراج" (المُدرّجات الخلفية بالملعب) إلى واقع بلدهم ..خارج الملعب؟

اشباع لحاجة الشعور بالإنتماء

تناقلت وسائل الإعلام منذ أسابيع قليلة خبر محبٍ شاب للنادي الإفريقي قرّر أخيرًا حلق رأسه، بعد ان امتنع عن ذلك لسنوات عديدة، احتفالاً منه بفوز الإفريقي في "دربي" العاصمة على غريمه التقليدي الترجّي الرياضي التونسي. هذا المحبّ المُتيّم بعشق "فريق باب الجديد" ليس استثناءً بين شبابنا، فكثيرون مثله يعدّلون سير حيواتهم اليوميّة على ايقاع حياة جمعيّتهم المفضّلة، فتراهم يُمضون أوائل أيّام الأسبوع في نقاشات لا تنتهي حول مردود فريقهم في مبارة الأحد المنصرم، ليختموه بالتحاليل والتكهّنات الخاصّة بمباراة الأحد المقبل. "ق" الذي تجاوز الثلاثين من العمر، هو أحد هؤلاء الأوفياء لإحدى الجمعيّات الكبيرة بالعاصمة، بدأت علاقته بفريقه كلاعب شابٍ، لكن ضراوة التنافس بين الطاقات التي يزخر بها هذا الفريق العريق لم تترك له المجال للبروز كلاعب، فبقي محبًا وفيًا ومدافعًا شرسًا عن ألوانه الى ان انتهى به المطاف حافظ أثاث يعمل لحساب الجمعيّة. "ق" لا تفوته ايّة مباراة يخوضها فريقه، اذ يتبعه في كلّ تنقّلاته الى مختلف أرجاء البلاد، فهو يرى انّ "من يحبّ الفريق عليه ان يكون وفيًا له في كلّ الظروف والأحوال، وان يعبّر عن دعمه لهم حتّى في حالة الهزيمة، فذلك ما يميّز المحبّ الحقيقي عن المزيّف الذي لا تراه الاّ في أوقات الإنتصارات والتتويج". وعن سبب تعلّقه الشديد بالفريق يقول "ق" انّ الجمعيّة هي "كلّ شيء في حياته" وانّها بمثابة العائلة بالنسبة له، ويذكر فضلها عليه عندما جرّه طيش الشباب الى ارتكاب مخالفة قانونية كان من المُفترض ان يقبع نتيجتها ثلاث سنوات وراء القضبان، الاّ انّ تدخّل رئيس الجمعيّة المتنفذّ سمح بتخفيف مدّة العقوبة الى شهر واحد، مضيفًا انّ اوّل مكان اتجّه اليه حال خروجه من السجن كان "حديقة الرياضة" التابعة للجمعيّة، التّي "اشتاق اليها أكثر من اشتياقه الى عائلته". هذا الأمر قد يساعد على فهم ظاهرة ما يسمّيه البعض ب"الميليشيات الرياضيّة" وهي مجموعات من الأحبّاء تتكفّل بالدفاع، حتّى عن طريق العنف، عن الجمعيّة وبالتحديد عن رئيسها ومسؤوليها، في وجه الإنتقادات الشديدة لبعض الغيورين على الفريق الذين لا يقبلون بالنتائج السلبيّة، أو تهجّمات أولئك "المغرضين" التابعين للمسؤولين السابقين، الذين لا يفوّتون ايّ عثرة للفريق دون استغلالها لمهاجمة سياسات الهيأة المديرة الحالية ورئيسها والتذكير بمآثر سلفه وانجازاته. هذه الظاهرة يفسّرها الدكتور مهدي مبروك أستاذ علم الإجتماع بوجود رهانات كبيرة في المنافسة الرياضيّة، "فرغم انّ الأمر يتعلّق بلعبة، الاّ انّها لعبة فيها أقصى قدر من الجدّية"، فالإندماج في أجواء تشجيع الفريق الرياضي يسهّل عمليّة "تشبيك العلاقات" le réseautage ممّا يؤدّي الى خلق مصالح مشتركة، وهو ما يسمح للبعض إشباع رغبته في "الزعامة"، بينما يتحوّل شعور الإنتماء لدى البعض الأخر الى نوع من "العصبيّة" ل"طيف دولة وهميّة" يدفعه الى الدفاع عنها وعن رموزها بمنتهى الجدّية.

هذا العشق بلا حدود ليس مقصورًا على جنس الذكور، اذ نلحظ في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا للفتيات ب"الشأن الكروي". "ا" (29 سنة، تعمل بمحلّ تجاري) احدى هؤلاء المولعات برياضة كرة القدم، نشأت منذ صغرها على حبّ "فريق باب سويقة" ، كما يحلو للبعض مناداة فريق الترجّي الرياضي التونسي، وذلك بحكم قرب بيت عائلتها من الملعب. هي ايضًا يمثّل لها فريقها المفضّل "كلّ شيء" في حياتها، وتقول انّ ما تحبّه في أجواء كرة القدم هو "فرحة الإنتصار وروعة الجمهور الذي يبقى وفيًا لفريقه حتى عند الهزيمة". "ا" تعتبر "الحديقة ب" حيث يتمرّن فريق الترجّي بمثابة بيتها العائلي، بل وتتمنّى ان يكون زوجها "ولد الجمعيّة". وأمّا عن السياسة والشأن العامّ فتجيب محدّثتنا بكلّ اقتضاب أنّها "لا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد"، وانّها شأنٌ له أناسه الذين يهتمّون به، فهي تلخصّ ترتيب أولويّات حياتها في "العائلة، الشغل، الجمعيّة".

هذه العلاقة المتينة بين المشجّع وفريقه يفسّرها الدكتور مبروك بالسعي الطبيعي للشباب الى تحقيق ذاته من خلال تبنّي "سبب وجود raison d’être" أو قضيّة ما يكرّس لها جزءًا كبيرًا من وقته وجهده، وتختلف نسبة هذا الوقت والجهد مع اختلاف المستوى الثقافي والبيئة الإجتماعيّة للمشجّع، كما انّ الإنخراط في عمليّة تشجيع الفريق المفضّل توفّر للشاب منظومة من الطقوس والشعائر (الأهازيج الجماعيّة، ألوان الفريق وقمصانه، التغنّي بإنتصاراته وأبطاله...) التي تُشعره بالإطمئنان الى انتمائه الى مجموعة بشريّة متجانسة ذات "قضيّة" واحدة، كما تخلق لديه نوعًا من الشعور بالحماية. مضيفًا انّ "ذلك أمر طبيعي في عصر "نهاية الحكايات الكبرى" حسب تعبير المفكّر الفرنسي فرانسوا ليوتار، حيث خفت بريق الإيديولوجيا لتعوّضها "حكايات صغرى" ليست أقلّ تأثيرًا وقدرة على نحت كيانات الأفراد"، خاصّة في بلد كتونس حيث تضيق مجالات الفعل السياسي والتطوّعي المستقلّ عمومًا. لكن مع ذلك تبقى السياسة غير بعيدة عن هذه الظاهرة اذ تتداخل معها أحيانًا.

علاقة "الكرة" بالسياسة

كان لافتًا ذلك المشهد الذي حصل يوم الأحد الماضي في ملعب باجة، عندما بدأ بعض أنصار الترجّي الرياضي التونسي في ترديد انشودة يعبّرون فيها عن مدى تعلّقهم بالنصر وعن استعدادهم لحرق مدينة الفريق المضيّف اذا لم يتسنّى لهم ذلك، فبادر عندها ضابط أمني رفيع بمخاطبتهم من خلال مكبّر الصوت وطالبهم ب"تبديل" اهزوجتهم، فما كان من بعضهم الاّ ان استحضروا أخرى يشبّهون فيها فريقهم ب"حزب الله" اللبناني، ممّا أثار هلع الضابط الذي عاود طلبه بإلحاح أشدّ.

هذا المشهد على طرافته يدلّ ولاشكّ على أمور تتجاوز التعليق البسيط، فهو كما يرى الدكتور مبروك يبيّن كيف "تختزل لعبة كرة القدم في بلادنا جملة من التناقضات والتجاذبات الإجتماعيّة ذات العلاقة بالشأن السياسي". فمثل هذه المشاهد تُظهر كيف يكون "الإنتماء الرياضي" مغلّفًا لإنتماءات أخرى أحيانًا، فالتنافس بين الفرق الكبرى قد يُفسح المجال من خلال التعبير التلقائي للمشجّعين لتنافسٍ ذي شحنة سلبيّة بين الجهات، كما هو الحال بين فريق الرياضي الصفاقسي "ممثّل" مدينة صفاقس التي يرى بعض سكّانها أنّها مدينة "محرومة"، والنجم الساحلي "ممثّل" الساحل عمومًا ومدينة سوسة على وجه الخصوص، التي يعتقدون أنّها حظيت بعناية خاصّة في "العهد الجديد". كما انّ فريق الترجّي رغم اشتمال جمهوره على مشجّعين من مختلف الفئات والطبقات الإجتماعيّة مرتبط في المخيال الجماعي لكثير من التونسيّين بأنّه فريق "بورجوازيّة العاصمة"، بينما يمثّل النادي الإفريقي الأحياء الشعبيّة والجهات الفقيرة بالبلاد (ولايات الشمال الغربي خاصّة) رغم أنّ كليهما تنحدر نشأته من أحياء المدينة العتيقة.

وكما يقول "م" وهو من أحبّاء احدى الفرق الكبرى بالعاصمة "في كرة القدم هناك كثير من السياسة" ذاكرًا على سبيل المثال كيف ظهرت أعلام فلسطين في الملاعب ابّان انطلاق الإنتفاضة الأخيرة قبل ان يمنعها الأمن، والقمصان التي تحمل صورة الرمز الثوري اليساري تشي غيفارا، التي زاد منع الأمن لإرتدائها بالملاعب من إقبال الشباب عليها. كما يشير الى انّ بعض الأهازيج التي رفعتها جماهير الترجّي والإفريقي في السنوات الأخيرة، أعطت للتنافس التقليدي بينهما في مجال الرياضة بعدًا أخر معبّرًا عن التنافس بين بعض مراكز النفوذ في بلادنا.

"م" ذي المستوى الجامعي المرموق والمنخرط في احد أحزاب المعارضة النشِطة ببلادنا، من الأحبّاء الأوفياء الذين لا يتخلّفون عن أيّ مباراة لفريقهم، وهو لا يرى مفارقة أو تعارضًا بين ما يتمتّع به من وعي سياسي وبين "انتمائه الرياضي"، اذ أنّه "يجد في أجواء الكرة أمورًا لا يوفّرها له انتماءه السياسي، فمن خلالها فقط يستطيع تفريغ شحنات الضغط اليومي، وأحيانًا الغضب، والتمتّع بهامش من الحرّية..وتذوّق طعم الإنتصار"

رغم كلّ ما يكن ان يُقال عن تدخّل السياسة في الرياضة كما تشهد على ذلك تدخّل السلطات في اختيار رؤساء الفرق أو رئيس جامعة كرة القدم، وعن كون الإنتماء الرياضي يمثّل نوعا من التعويض للإنتماء السياسي أو الوعي الطبقي لدى جموع الشباب، تبقى "الكورة" هي أحد الملاذات القليلة لشباب يعاني الكثير منه من ضيق الأفق ومن فقر المستوى الثقافي، فهناك فقط كما يختم الدكتور مبروك "يستطيع الشابّ التونسي ان يشعر بالإنتصار الوحيد الممكن".

غسّان بن خليفة

السبت، فيفري 17، 2007

مسرحيّة "خمسون" : شهادة على تاريخ وطن وتشريح لأزمة مجتمع

مسرحيّة "خمسون" : شهادة على تاريخ وطن وتشريح لأزمة مجتمع

منذ الدقائق الأولى للعمل الجديد لفرقة "فاميليا"، يستطيع المرء ان "يفهم" سبب امتناع السلطة عن السماح بعرضها في أوّل الأمر. فهذه المسرحيّة-الحدث هي بلا أدنى شكّ شهادة فنيّة على تاريخ وطن أجهضت نخبه، لا سيما الممسكة منها بمفاتيح القرار، بشكل متواصل على مدى نصف قرن، آمال شعبه في الحرّية والحداثة والكرامة. هذه المسرحيّة التي بدأت بواقعة عنيفة، كان يمكن اعتبارها غريبة على مجتمعنا قبل عدّة أسابيع، أتت في شكل "نبؤة" فنيّة متشائمة، قام من خلالها

الثنائي المبدع فاضل الجعايبي وجليلة بكّار ورفاقهما ب"جردة حساب" مؤلمة، مع ذواتهم أولاً، ك"ممثّلين" عن التيّار الحداثي التونسي، ولمسيرة بلادنا بعد خمسين عامًا من الإستقلال، في دعوة صريحة ملحّة لكلّ التونسيّين كي يفيقوا من سباتهم، وينظروا الى واقعهم دون رتوش، ويستقرؤا مستقبلاً لا تدلّ تباشيره على الخير...

"خمسون" تحاول رصد هذا المستقبل الغامض من خلال تسليط الضوء على ثلاث مسائل مفصليّة، طبعت وماتزال صيرورة الأحداث في بلادنا هي أزمة اليسار والقوى الحداثيّة، اشكاليّة الإستبداد وعلاقته الجدليّة بالتطرّف، والظاهرة الدينيّة وما تحتويه من صراع بين التأويلات المختلفة.

الحداثة التائهة...

بعد استعراض رشيق بصوت فتحي العكّاري لتاريخ تونس في شكل لا يخلو من التهكّم على الخطاب الرسمي التمجيدي، تبدأ المسرحيّة بشكل تراجيدي يوحي بالعبثيّة من خلال حادثة تفجير أستاذة تعليم ثانوي تدرّس الفيزياء لنفسها، تحت علم البلاد في يوم الإحتفال بالعيد الخمسين لإستقلالها، على خلفيّة مشهد يصوّر مجموعة من المتديّنين تمارس طقوس الوضوء والصلاة بشكل يطغى عليه الإهتمام المفرط بالتفاصيل والحرص المغالي على النقاوة والطهارة، يتلوه الظهور الصاخب لجهاز الأمن السياسي بأساليبه المعتادة المتكرّرة منذ خمسين عامًا، اذ يحاول عناصره الوصول الى الحقيقة من خلال الإستجواب المباشر لكلّ معارف "جودة" الأستاذة الإنتحاريّة، معتمدين القليل من الترغيب والكثير من الترهيب والتعذيب.. كما تشير الى ذلك "مريم"، التي ذكّرت المحقّق بتجرتها مع جدران غرفة التحقيق منذ اعتقال والدها اليوسفي في الستينات، مرورًا بالحركة الطلابيّة وصعود اليسار واعتقالها مع زوجها ورفيق دربها في السبعينات، الى شقيقها النقابي في أحداث 28 جانفي، ووصولاً الى اليوم حيث يُحقّق معها من جديد للإشتباه بضلوع ابنتها "أمل" ذات التوجّهات الإسلاميّة في عمليّة التفجير...

وكالعادة تحاول "مريم" اقناع الممثّل الأمني للسلطة بأنّ هذه الأخيرة تكرّر نفس الأخطاء منذ نصف قرن، وانّ الحداثة والتقدّم لا يُحميَان بالإكراه والرعب، وتأتي الإجابة مبهمة من رجل الأمن الذي يتعلّل بتطبيقه للأوامر، بعد عجزه عن الإجابة على الحجج المنطقيّة لمخاطبته التي خطفت منه دور المستجوب الباحث عن الحقيقة...

إلى جانب عجز السلطة المستبدّة عن المحافظة على قيم الحداثة بسبب رفضها الإنفتاح على مواطنيها، وتغيير أساليب تعاملها معهم، تأتي عودة "أمل" من فرنسا، وقد ارتدت الخمار، لتكشف عن أزمة أخرى هي أزمة بعض الحداثيّين التونسيّين الذين يجسّدهم الزوج "الناصر" و"مريم" الذين يرفضان بقوّة اختيار ابنتهم التديّن، ويصل الرفض الى أقصاه عندما لا يقبل الوالد تقبيل ابنته ومقابلتها بخمارها في تجسيد لعجز بعض العلمانيّين عن فهم الظاهرة الدينيّة وان كانت روحانيّة بحتة كما هو حال "أمل" ، وعدم نجاحهم في استيعاب التحوّلات التي عرفها المجتمع تحت تأثير ظروف يتداخل فيها الداخلي بالإقليمي والعالمي...

بعد ذلك تقرّر "أمل" هجر والديها والإرتماء في أحضان "اخواتها" و"اخوانها" ، وتحاول من خلال علاقتها معهم ان تلامس الحقيقة المطلقة والراحة النفسيّة التي وجدتها في الدين، لكنّها تكتشف ايضًا انّ الصورة لا تخلو من الشوائب فتخوض معهم على خلفيّة رؤية أحد أفراد المجموعة المتديّنة لأمّها تخرج من حانة، صراعًا مريرًا دافعت فيه عن رؤية معتدلة ومقاصديّة للدين مقابل أخرى نصيّة حرفيّة تغلّب الشكل على الجوهر، في مشهد اختزل فيه "التراشق" بالآيات القرآنيّة عمق أزمة الخطاب الديني المعاصر في مجتمعاتنا وصعوبة تأقلمه مع قيم الحداثة ومتطلبّاتها. وهو أمر قد يُفهم نسبيًا اذا وُضع هذا الخطاب في سياق العلاقة المتفجّرة بين حمَلَتِه والسلطة السياسيّة في بلادنا.

جدليّة التطرّف والإستبداد

تتكرّر مشاهد الإستجواب العنيف للمتهمّين وحتّى لمعارفهم كما هو حال ممرّن الملاكمة، في اشارة الى عدم قدرة الأمن رغم قوّته وتواجده في كلّ مكان على التعامل السليم حتّى مع من لم يرتكب ايّ جرم، ممّا يضاعف من أسباب الغضب والشعور بالظلم. كما يبيّن الجعايبي وبكّار في مسرحيّتهما انّ الأحداث التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي من حروب واحتلال واستبداد خارجي، ساهمت بدورها في تغذية مشاعر الإضطهاد والنقمة على المعتدي-المحتلّ الذي تحوّل، أو حُوّل، في ذهن بعض الشباب المتحمّس بفعل سياسات التفقير الثقافي، وانتشار الفكر الماضوي وحدّة أزمة الإنتماء الى ذلك الأجنبي-الكافر.

ويكون ردّ المتهمّين-الضحايا بمزيد من التطرّف عبّرت عنه مشاهد التهييج العاطفي والخطب الملتهبة، التي تنطلق من رفض واقع الهزيمة والذلّ الى معاداة الجميع بعد ان تُقسَّم الأطراف المقابلة الى مؤمنة وكافرة.

وفي حين تحاول "مريم" فهم ما يجري من خلال مطاردة "قدّور المنقلة" جلادّ زوجها السابق، الذي أبدع في تجسيده جمال مداني، ومحاسبته على ما ارتكبه من خطايا في حقّ العباد والبلاد، يغرق "الناصر" في احباطه الذي يؤدّي به الى المرض العضال ومن ثمّ الى الوفاة، في انذار واضح الى الحداثيّين بإمكانيّة "انقراضهم" اذا واصلوا غلق أعينهم والتحصّن بأبراجهم الإيديولوجيّة، أو الإكتفاء بالقول المنتشي البعيد عن الواقع كما صوّر ذلك مشهد الشاعر الثمل في الحانة، بينما يتمسّك بعض الشباب اليساري المضطرب بتلاليب الماضي المجيد مستنهضًا همم رموزه الذين تجاوزتهم الأحداث.

وينتهي العرض بإدانة "الأجهزة" للشاب المتديّن "حمِد بن ميّ" الذي يردّ على خشونة جلاّديه بمزيد من التحدّي والتمسّك بنهج العنف، في مشهد اعتراف مثير يتضّح فيه انّ المتهمّ هو من مواليد 15 نوفمبر 1987 ، في اشارة بليغة الى انّه من أبناء ما يُعرف ب"جيل العهد الجديد" الذين راهنت عليهم السلطة في حربها الإستئصاليّة لما تصفه بالتطرّف الديني، فإكتشفت أنّها "انتجت" جيلاً مسخًا تائهًا، متوتّرًا وناقمًا على الجميع.

رغم ما يمكن ان يُقال عن طول العرض وأسلوبه المباشراتي، لا يسع المرء الاّ ان يحيّي بإعجاب الجعايبي وبكّار على هذا العمل النوعي الجديد في مسيرتهما، الذي يأتي ولاشكّ في لحظة فارقة من مسيرة شعب بأكمله، حاولا فيه ان يُطلقا من أحشائهما صرخة مدويّة ، قد تكون أخيرة، دفاعًا عن قيم آمنا بها وناضلت وضحّت من أجلها أجيال، وعن مستقبل بلاد لا تزال بعيدة عن قيم وأحلام الحريّة والمواطَنة والحداثة والتنوّع، ولعلّ المشهد الأخير الذي يشير فيه الممثّلون بسبّباتهم الى الجمهور في حركة دائريّة، هو أبلغ تعبير عن رسالة مفادها انّنا جميعًا مسؤولون عن واقع ومصير هذا الوطن.

غسّان بن خليفة

"المدوّنون" التونسيّون يرفضون الرقابة على الأنترنات

"المدوّنون" التونسيّون يرفضون الرقابة على الأنترنات




في حوار مع قناة "تونس 7" منذ حوالي أسبوعين، فنّد السيّد عادل قعلول مدير الوكالة التونسيّة للأنترنات كلّ الإنتقادات الموجَّهة إلى وكالته، إذ عدّد كما هي عادة المسؤولين التونسيّين إنجازات الدولة في مجال الأنترنات، وتحدّث بإستفاضة عن المشاريع المستقبليّة، وإكتفى في ردّه على سؤال بدا جريئًا من معدّ البرنامج، عن حقيقة الرقابة التي تمارسها الحكومة على شبكة الأنترنات بالنفي المطلق لذلك وبالإجابة التقليديّة المعهودة بأنّ مصلحته لا تحجب الاّ المواقع الإباحيّة...

وبغضّ النظر عن المجادلة في مدى أهليّة الحكومة لأن تقرّر وحدها من منطلق "أخلاقي" ما يجوز لمواطنيها ان يزوروا من مواقع، يبرز إلى السطح سؤال ملحّ حول مدى حقيقة هذا الكلام في ظلّ تزايد تشكّيات مستعملي الأنترنات من تدهور جودة هذه الخدمة، والإحتجاجات على ما تمارسه المصالح الرسميّة من رقابة أتت على الأخضر واليابس من مواقع ومدوّنات تجرّأت على الإقتراب من مواضيع تخصّ مجتمعنا، سيما منها ما يتعلّق بالشأن السياسي، وان كان ذلك بشكل معتدل ونقدي بنّاء. الأمر الذي أثار احتجاجًا واسع النطاق بين المدوّنين التونسيّين في المدّة الأخيرة...

رقابة صارمة وغير معلومة المعايير

صنّفت منظّمة "مراسلون بلا حدود" في تقريرها حول "حرّية الصحافة في العالم سنة 2006" تونس في المرتبة 148 (من بين 168 دولة شملها التقرير)، كما دأبت هذه المنظّمة وغيرها من الهيئات المهتمّة بحرّية الإبحار على شبكة الأنترنات على إعتبار تونس كإحدى الدول "العدّوة للأنترنات". وقد يستغرب المرء ان تأتي تونس في هذا الترتيب وراء دول شهدت مقتل صحفيّين (مثل روسيا التي تحتّل المرتبة 147)، لكن حيرته سرعان ما تزول عندما يطلّع على المعايير المعتمَدة في إعداد هذا التقرير ومن أهمّها: سجن الصحفيّين وأصحاب الرأي، سجن مستعملي الأنترنات، الإعتداء على صحفيّين أو تهديدهم، الرقابة المباشرة وغير المباشرة على الصحف، إحتكار وسائل الإعلام العامّة أو الخاصّة... وهي كلّها للأسف أمور مازالت تعاني منها بلادنا.

وفيما يخصّ شبكة الأنترنات، لاتزال السلطات في بلادنا تحجب كلّ المواقع التّي تتجرّأ على نشر أخبار أو أراء لا توافق الخطاب الرسمي للحكومة، وتشمل الرقابة في هذا الصدد مواقع أحزاب المعارضة، والجمعيّات التونسيّة وغير التونسيّة المهتمّة بأوضاع حقوق الإنسان أو الحرّيات بصفة عامّة (موقع مراسلون بلا حدود، موقع منظّمة العفو الدوليّة...)، كما ينسحب الأمر ذاته على منتديات النقاش التي يرتادها الشباب التونسي من داخل البلاد أو خارجها كمنتدى "نواة" أو "تونيزين"، بينما تُمارَس ضغوطات مباشرة وغير مباشرة على منتديات أخرى تعمل انطلاقًا من تونس، من أهمّها www.mac125.com الذي اضطرّ مالكه إلى إغلاقه أيّام القمّة العالميّة للمعلومات التّي جرت ببلادنا سنة 2005 بسبب تعدّد المواضيع الحواريّة السياسيّة، فضلاً عن انّ هذه المنتديات تعلن بشكل واضح "منع" تناول الشأن السياسي الداخلي على صفحاتها، الأمر الذي قلّ ان التزم به مرتادوها من الشباب المتعطّش لمناقشة أوضاع بلاده مثلما يناقش أوضاع فلسطين والعراق وحتّى فرنسا والولايات المتحّدة...

يُلاحَظ أيضًا انّ هذا المنع يطال أحيانًا مواقع لا علاقة لها لا بالسياسة الداخليّة ولا بالإباحيّة أو"البورنوغرافيا"، إذ طال أيضًا مواقع ذات صبغة فنّية متخصّصة في فنّ الرسم على الجسد the body painting مثلاً، أوصفحات بعض المواقع المعرفيّة مثل الموسوعة المفتوحة "ويكيباديا".. ممّا يدفع إلى التساؤل عن المعايير المُتبّعة لدى المشرفين على هذه الممارسات...

المدوّنون التونسيّون: شباب غير مسيّس متمسّك بحقوق مواطََنَتِه

تطوّر شبكة الأنترنات وما تختزنه من إمكانيّات للتفاعل والإنفتاح على تجارب الأخرين في مختلف أصقاع العالم أدّى إلى بروز ظاهرة التدوين الإلكترونيblogging بتونس، وهي تتمثّل في سهولة إنشاء موقع شخصي صغير، يمكن لصاحبه ان ينشر عليه أرائه وخواطره التّي قد تتراوح بين التعليق على التفاصيل البسيطة للحياة اليوميّة، وبين تحليل الأحداث العالميّة، إضافة إلى ما يعجبه من مقالات وصور أو لقطات فيديو وموسيقى وغيرها، مع إمكانيّة فتح نقاش مع أيّ مستعمل للإنترنات في العالم حول محتوى تلك المواضيع. تتسّم المُدَوَّنات بتنوّعها وبصعوبة مراقبتها، فهي ظاهرة ما فتئت تنتعش في البلدان التّي تُحترَم فيها حرّية المواطنين في التعبير عن أرائهم، ممّا يفسّر "الإصطدام" الذي جرى مؤخّرًا بين "شرطة الأنترنات" والمدوّنين التونسيّين. الأمر بدأ عندما كثّفت المصالح المختصّة في مراقبة الأنترنات في بلادنا، والتي لا تعلن عن نفسها وتقوم بحجب المواقع التّي لا تعجبها دون أيّ إعلام أو تبرير، من مراقبتها للمدوّنات وقامت يوم 19 ديسمبر الفائت بمنع الدخول إلى ثلاث مدوّنات انطلاقًا من تونس وهي على التوالي : Samsoum-Usa, SamiIII, Felsfa . مدوّنات لشبّان تونسيّين لا ينتمون للمعارضة وندر ان تطرّقوا بشكل عرَضي للشأن السياسي الداخلي، انتقدوا فيها أمورا معروفة لدى كلّ التونسيّين كإستغلال النفوذ، والرشوة ، ووضع وسائل الإعلام من خلال وقائع يوميّة عاشوها بأنفسهم، فهم كما يقول "مواطن تونسي"، وهواسم مستعار لشابّ تونسي كانت مدوّنته ضحيّة لموجة الحجب الأخيرة، يعتمدون التدوين "كعلاج ضدّ اللامبالاة".

هذا الأمر وان لم يكن جديدًا مثّل تصعيدًا غير مبرّر استفزّ جموع المدوّنين، الذين قرّروا في سابقة هي الأولى من نوعها ان يحتجّوا بشكل جماعي على ما حدث، فقاموا بتنظيم "اضراب عن الكتابة" دام طيلة يوم 25 ديسمبر 2006 ، أطلقوا عليه إسم "يوم التدوينة البيضاء"، وقد لاقى هذا الإضراب تجاوبًا واسعًا نسبيًا إذ شارك فيه ما لايقلّ عن ثلاثٍ وثمانين مدوِّنِ ومدوّنة من تونس، إضافة إلى تضامن عديد المدوّنين في العالم، كما عبّر عدد أخر من مستعملي الأنترنات التونسيّين عن مشاركتهم أو تضامنهم في عدد من منتديات النقاش مثل www.kafteji.com الذائع الصيت الذي يضمّ الافًا من الشبّان التونسيّين المزوالين لدراستهم بالخارج.

ما جرى في أوساط "الجماعة الإفتراضيّة" التونسيّة قد لا يبدو ذا أهميّة بالغة لدى البعض، لكن المثير للإنتباه انّ الأمر يتعلّق هذه المرّة بمواطنين تونسيّين لا علاقة لمعظمهم بالمعارضة، ملّوا من الأوضاع المتردّية للحرّيات ببلادهم، وقرّروا ان ينظّموا صفوفهم في مبادرة مواطنيّة مستقلّة، يقول "مواطن تونسي" أنّهم أرادوا من خلالها توجيه رسالة لأصحاب القرار ببلادنا مفادها " انّنا بحاجة إلى حدّ أدنى من الحرّية نعتقد أنّه مفقود، ونتمنّى ان نعبّر من دون قيود عن أرائنا عندما لا يتعلّق الأمر بأفكار متطرّفة أو فيها مسّ بأمن بلادنا، وهو أمر يهمّنا جميعنا المحافظة عليه. وأنّنا في تونس في حاجة ماسّة إلى إرساء متدرّج لتقاليد التعبير الحرّ الكامل، لأنّ التونسي بلغ درجة من الثقافة والوعي تؤهّله للمطالبة بذلك...".. فهل من مجيب؟

غسّان بن خليفة