السبت، فيفري 17، 2007

مسرحيّة "خمسون" : شهادة على تاريخ وطن وتشريح لأزمة مجتمع

مسرحيّة "خمسون" : شهادة على تاريخ وطن وتشريح لأزمة مجتمع

منذ الدقائق الأولى للعمل الجديد لفرقة "فاميليا"، يستطيع المرء ان "يفهم" سبب امتناع السلطة عن السماح بعرضها في أوّل الأمر. فهذه المسرحيّة-الحدث هي بلا أدنى شكّ شهادة فنيّة على تاريخ وطن أجهضت نخبه، لا سيما الممسكة منها بمفاتيح القرار، بشكل متواصل على مدى نصف قرن، آمال شعبه في الحرّية والحداثة والكرامة. هذه المسرحيّة التي بدأت بواقعة عنيفة، كان يمكن اعتبارها غريبة على مجتمعنا قبل عدّة أسابيع، أتت في شكل "نبؤة" فنيّة متشائمة، قام من خلالها

الثنائي المبدع فاضل الجعايبي وجليلة بكّار ورفاقهما ب"جردة حساب" مؤلمة، مع ذواتهم أولاً، ك"ممثّلين" عن التيّار الحداثي التونسي، ولمسيرة بلادنا بعد خمسين عامًا من الإستقلال، في دعوة صريحة ملحّة لكلّ التونسيّين كي يفيقوا من سباتهم، وينظروا الى واقعهم دون رتوش، ويستقرؤا مستقبلاً لا تدلّ تباشيره على الخير...

"خمسون" تحاول رصد هذا المستقبل الغامض من خلال تسليط الضوء على ثلاث مسائل مفصليّة، طبعت وماتزال صيرورة الأحداث في بلادنا هي أزمة اليسار والقوى الحداثيّة، اشكاليّة الإستبداد وعلاقته الجدليّة بالتطرّف، والظاهرة الدينيّة وما تحتويه من صراع بين التأويلات المختلفة.

الحداثة التائهة...

بعد استعراض رشيق بصوت فتحي العكّاري لتاريخ تونس في شكل لا يخلو من التهكّم على الخطاب الرسمي التمجيدي، تبدأ المسرحيّة بشكل تراجيدي يوحي بالعبثيّة من خلال حادثة تفجير أستاذة تعليم ثانوي تدرّس الفيزياء لنفسها، تحت علم البلاد في يوم الإحتفال بالعيد الخمسين لإستقلالها، على خلفيّة مشهد يصوّر مجموعة من المتديّنين تمارس طقوس الوضوء والصلاة بشكل يطغى عليه الإهتمام المفرط بالتفاصيل والحرص المغالي على النقاوة والطهارة، يتلوه الظهور الصاخب لجهاز الأمن السياسي بأساليبه المعتادة المتكرّرة منذ خمسين عامًا، اذ يحاول عناصره الوصول الى الحقيقة من خلال الإستجواب المباشر لكلّ معارف "جودة" الأستاذة الإنتحاريّة، معتمدين القليل من الترغيب والكثير من الترهيب والتعذيب.. كما تشير الى ذلك "مريم"، التي ذكّرت المحقّق بتجرتها مع جدران غرفة التحقيق منذ اعتقال والدها اليوسفي في الستينات، مرورًا بالحركة الطلابيّة وصعود اليسار واعتقالها مع زوجها ورفيق دربها في السبعينات، الى شقيقها النقابي في أحداث 28 جانفي، ووصولاً الى اليوم حيث يُحقّق معها من جديد للإشتباه بضلوع ابنتها "أمل" ذات التوجّهات الإسلاميّة في عمليّة التفجير...

وكالعادة تحاول "مريم" اقناع الممثّل الأمني للسلطة بأنّ هذه الأخيرة تكرّر نفس الأخطاء منذ نصف قرن، وانّ الحداثة والتقدّم لا يُحميَان بالإكراه والرعب، وتأتي الإجابة مبهمة من رجل الأمن الذي يتعلّل بتطبيقه للأوامر، بعد عجزه عن الإجابة على الحجج المنطقيّة لمخاطبته التي خطفت منه دور المستجوب الباحث عن الحقيقة...

إلى جانب عجز السلطة المستبدّة عن المحافظة على قيم الحداثة بسبب رفضها الإنفتاح على مواطنيها، وتغيير أساليب تعاملها معهم، تأتي عودة "أمل" من فرنسا، وقد ارتدت الخمار، لتكشف عن أزمة أخرى هي أزمة بعض الحداثيّين التونسيّين الذين يجسّدهم الزوج "الناصر" و"مريم" الذين يرفضان بقوّة اختيار ابنتهم التديّن، ويصل الرفض الى أقصاه عندما لا يقبل الوالد تقبيل ابنته ومقابلتها بخمارها في تجسيد لعجز بعض العلمانيّين عن فهم الظاهرة الدينيّة وان كانت روحانيّة بحتة كما هو حال "أمل" ، وعدم نجاحهم في استيعاب التحوّلات التي عرفها المجتمع تحت تأثير ظروف يتداخل فيها الداخلي بالإقليمي والعالمي...

بعد ذلك تقرّر "أمل" هجر والديها والإرتماء في أحضان "اخواتها" و"اخوانها" ، وتحاول من خلال علاقتها معهم ان تلامس الحقيقة المطلقة والراحة النفسيّة التي وجدتها في الدين، لكنّها تكتشف ايضًا انّ الصورة لا تخلو من الشوائب فتخوض معهم على خلفيّة رؤية أحد أفراد المجموعة المتديّنة لأمّها تخرج من حانة، صراعًا مريرًا دافعت فيه عن رؤية معتدلة ومقاصديّة للدين مقابل أخرى نصيّة حرفيّة تغلّب الشكل على الجوهر، في مشهد اختزل فيه "التراشق" بالآيات القرآنيّة عمق أزمة الخطاب الديني المعاصر في مجتمعاتنا وصعوبة تأقلمه مع قيم الحداثة ومتطلبّاتها. وهو أمر قد يُفهم نسبيًا اذا وُضع هذا الخطاب في سياق العلاقة المتفجّرة بين حمَلَتِه والسلطة السياسيّة في بلادنا.

جدليّة التطرّف والإستبداد

تتكرّر مشاهد الإستجواب العنيف للمتهمّين وحتّى لمعارفهم كما هو حال ممرّن الملاكمة، في اشارة الى عدم قدرة الأمن رغم قوّته وتواجده في كلّ مكان على التعامل السليم حتّى مع من لم يرتكب ايّ جرم، ممّا يضاعف من أسباب الغضب والشعور بالظلم. كما يبيّن الجعايبي وبكّار في مسرحيّتهما انّ الأحداث التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي من حروب واحتلال واستبداد خارجي، ساهمت بدورها في تغذية مشاعر الإضطهاد والنقمة على المعتدي-المحتلّ الذي تحوّل، أو حُوّل، في ذهن بعض الشباب المتحمّس بفعل سياسات التفقير الثقافي، وانتشار الفكر الماضوي وحدّة أزمة الإنتماء الى ذلك الأجنبي-الكافر.

ويكون ردّ المتهمّين-الضحايا بمزيد من التطرّف عبّرت عنه مشاهد التهييج العاطفي والخطب الملتهبة، التي تنطلق من رفض واقع الهزيمة والذلّ الى معاداة الجميع بعد ان تُقسَّم الأطراف المقابلة الى مؤمنة وكافرة.

وفي حين تحاول "مريم" فهم ما يجري من خلال مطاردة "قدّور المنقلة" جلادّ زوجها السابق، الذي أبدع في تجسيده جمال مداني، ومحاسبته على ما ارتكبه من خطايا في حقّ العباد والبلاد، يغرق "الناصر" في احباطه الذي يؤدّي به الى المرض العضال ومن ثمّ الى الوفاة، في انذار واضح الى الحداثيّين بإمكانيّة "انقراضهم" اذا واصلوا غلق أعينهم والتحصّن بأبراجهم الإيديولوجيّة، أو الإكتفاء بالقول المنتشي البعيد عن الواقع كما صوّر ذلك مشهد الشاعر الثمل في الحانة، بينما يتمسّك بعض الشباب اليساري المضطرب بتلاليب الماضي المجيد مستنهضًا همم رموزه الذين تجاوزتهم الأحداث.

وينتهي العرض بإدانة "الأجهزة" للشاب المتديّن "حمِد بن ميّ" الذي يردّ على خشونة جلاّديه بمزيد من التحدّي والتمسّك بنهج العنف، في مشهد اعتراف مثير يتضّح فيه انّ المتهمّ هو من مواليد 15 نوفمبر 1987 ، في اشارة بليغة الى انّه من أبناء ما يُعرف ب"جيل العهد الجديد" الذين راهنت عليهم السلطة في حربها الإستئصاليّة لما تصفه بالتطرّف الديني، فإكتشفت أنّها "انتجت" جيلاً مسخًا تائهًا، متوتّرًا وناقمًا على الجميع.

رغم ما يمكن ان يُقال عن طول العرض وأسلوبه المباشراتي، لا يسع المرء الاّ ان يحيّي بإعجاب الجعايبي وبكّار على هذا العمل النوعي الجديد في مسيرتهما، الذي يأتي ولاشكّ في لحظة فارقة من مسيرة شعب بأكمله، حاولا فيه ان يُطلقا من أحشائهما صرخة مدويّة ، قد تكون أخيرة، دفاعًا عن قيم آمنا بها وناضلت وضحّت من أجلها أجيال، وعن مستقبل بلاد لا تزال بعيدة عن قيم وأحلام الحريّة والمواطَنة والحداثة والتنوّع، ولعلّ المشهد الأخير الذي يشير فيه الممثّلون بسبّباتهم الى الجمهور في حركة دائريّة، هو أبلغ تعبير عن رسالة مفادها انّنا جميعًا مسؤولون عن واقع ومصير هذا الوطن.

غسّان بن خليفة