"شباب الملاعب" يبحث عن انتماء..غير ممنوع
"شباب الملاعب" يبحث عن انتماء..غير ممنوع
لا يجادل اثنان في انّ أكثر الأمكنة اقبالاً من الشباب في بلادنا هي المقهى والمسجد والملعب. ولاشكّ انّ لهذه الملاحظة التي قد تبدو عابرة أكثر من دلالة عميقة، اذ بيّنت نتائج الإستشارة الشبابيّة الأخيرة انّ 72 بالمائة من الشباب المُستجوَب لا يرى جدوى في الإنتماء إلى الأحزاب السياسيّة أو الجمعيّات، ممّا يؤكّد مدى ابتعاد شبابنا عن قضايا الشأن العامّ، واستبداله لهذه الأُطر المميّزة للمجتمعات الديمقراطيّة الحديثة بأخرى قد تتجاوز حجمها ووظيفتها الأصليّين. وتُعدُّ ظاهرة "الإنتماء الرياضي" والإقبال الشبابي الكبير على تشجيع الفرق الرياضيّة..الى حدّ التطرّف أحيانًا، من أبرز الدلائل على ذلك. "الموقف" تبِعت هؤلاء الشبّان إلى الملعب و"حديقة الرياضة" حيث يمارسون طقوس عشقهم الكروي، في محاولة لفهم طريقة تفكيرهم وإكتشاف سرّ هذا الولع الشبيه بالإدمان؟ ولمعرفة كيف ينظر أحبّاء "الفيراج" (المُدرّجات الخلفية بالملعب) إلى واقع بلدهم ..خارج الملعب؟
اشباع لحاجة الشعور بالإنتماء
تناقلت وسائل الإعلام منذ أسابيع قليلة خبر محبٍ شاب للنادي الإفريقي قرّر أخيرًا حلق رأسه، بعد ان امتنع عن ذلك لسنوات عديدة، احتفالاً منه بفوز الإفريقي في "دربي" العاصمة على غريمه التقليدي الترجّي الرياضي التونسي. هذا المحبّ المُتيّم بعشق "فريق باب الجديد" ليس استثناءً بين شبابنا، فكثيرون مثله يعدّلون سير حيواتهم اليوميّة على ايقاع حياة جمعيّتهم المفضّلة، فتراهم يُمضون أوائل أيّام الأسبوع في نقاشات لا تنتهي حول مردود فريقهم في مبارة الأحد المنصرم، ليختموه بالتحاليل والتكهّنات الخاصّة بمباراة الأحد المقبل. "ق" الذي تجاوز الثلاثين من العمر، هو أحد هؤلاء الأوفياء لإحدى الجمعيّات الكبيرة بالعاصمة، بدأت علاقته بفريقه كلاعب شابٍ، لكن ضراوة التنافس بين الطاقات التي يزخر بها هذا الفريق العريق لم تترك له المجال للبروز كلاعب، فبقي محبًا وفيًا ومدافعًا شرسًا عن ألوانه الى ان انتهى به المطاف حافظ أثاث يعمل لحساب الجمعيّة. "ق" لا تفوته ايّة مباراة يخوضها فريقه، اذ يتبعه في كلّ تنقّلاته الى مختلف أرجاء البلاد، فهو يرى انّ "من يحبّ الفريق عليه ان يكون وفيًا له في كلّ الظروف والأحوال، وان يعبّر عن دعمه لهم حتّى في حالة الهزيمة، فذلك ما يميّز المحبّ الحقيقي عن المزيّف الذي لا تراه الاّ في أوقات الإنتصارات والتتويج". وعن سبب تعلّقه الشديد بالفريق يقول "ق" انّ الجمعيّة هي "كلّ شيء في حياته" وانّها بمثابة العائلة بالنسبة له، ويذكر فضلها عليه عندما جرّه طيش الشباب الى ارتكاب مخالفة قانونية كان من المُفترض ان يقبع نتيجتها ثلاث سنوات وراء القضبان، الاّ انّ تدخّل رئيس الجمعيّة المتنفذّ سمح بتخفيف مدّة العقوبة الى شهر واحد، مضيفًا انّ اوّل مكان اتجّه اليه حال خروجه من السجن كان "حديقة الرياضة" التابعة للجمعيّة، التّي "اشتاق اليها أكثر من اشتياقه الى عائلته". هذا الأمر قد يساعد على فهم ظاهرة ما يسمّيه البعض ب"الميليشيات الرياضيّة" وهي مجموعات من الأحبّاء تتكفّل بالدفاع، حتّى عن طريق العنف، عن الجمعيّة وبالتحديد عن رئيسها ومسؤوليها، في وجه الإنتقادات الشديدة لبعض الغيورين على الفريق الذين لا يقبلون بالنتائج السلبيّة، أو تهجّمات أولئك "المغرضين" التابعين للمسؤولين السابقين، الذين لا يفوّتون ايّ عثرة للفريق دون استغلالها لمهاجمة سياسات الهيأة المديرة الحالية ورئيسها والتذكير بمآثر سلفه وانجازاته. هذه الظاهرة يفسّرها الدكتور مهدي مبروك أستاذ علم الإجتماع بوجود رهانات كبيرة في المنافسة الرياضيّة، "فرغم انّ الأمر يتعلّق بلعبة، الاّ انّها لعبة فيها أقصى قدر من الجدّية"، فالإندماج في أجواء تشجيع الفريق الرياضي يسهّل عمليّة "تشبيك العلاقات" le réseautage ممّا يؤدّي الى خلق مصالح مشتركة، وهو ما يسمح للبعض إشباع رغبته في "الزعامة"، بينما يتحوّل شعور الإنتماء لدى البعض الأخر الى نوع من "العصبيّة" ل"طيف دولة وهميّة" يدفعه الى الدفاع عنها وعن رموزها بمنتهى الجدّية.
هذا العشق بلا حدود ليس مقصورًا على جنس الذكور، اذ نلحظ في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا للفتيات ب"الشأن الكروي". "ا" (29 سنة، تعمل بمحلّ تجاري) احدى هؤلاء المولعات برياضة كرة القدم، نشأت منذ صغرها على حبّ "فريق باب سويقة" ، كما يحلو للبعض مناداة فريق الترجّي الرياضي التونسي، وذلك بحكم قرب بيت عائلتها من الملعب. هي ايضًا يمثّل لها فريقها المفضّل "كلّ شيء" في حياتها، وتقول انّ ما تحبّه في أجواء كرة القدم هو "فرحة الإنتصار وروعة الجمهور الذي يبقى وفيًا لفريقه حتى عند الهزيمة". "ا" تعتبر "الحديقة ب" حيث يتمرّن فريق الترجّي بمثابة بيتها العائلي، بل وتتمنّى ان يكون زوجها "ولد الجمعيّة". وأمّا عن السياسة والشأن العامّ فتجيب محدّثتنا بكلّ اقتضاب أنّها "لا تعنيها لا من قريب ولا من بعيد"، وانّها شأنٌ له أناسه الذين يهتمّون به، فهي تلخصّ ترتيب أولويّات حياتها في "العائلة، الشغل، الجمعيّة".
هذه العلاقة المتينة بين المشجّع وفريقه يفسّرها الدكتور مبروك بالسعي الطبيعي للشباب الى تحقيق ذاته من خلال تبنّي "سبب وجود raison d’être" أو قضيّة ما يكرّس لها جزءًا كبيرًا من وقته وجهده، وتختلف نسبة هذا الوقت والجهد مع اختلاف المستوى الثقافي والبيئة الإجتماعيّة للمشجّع، كما انّ الإنخراط في عمليّة تشجيع الفريق المفضّل توفّر للشاب منظومة من الطقوس والشعائر (الأهازيج الجماعيّة، ألوان الفريق وقمصانه، التغنّي بإنتصاراته وأبطاله...) التي تُشعره بالإطمئنان الى انتمائه الى مجموعة بشريّة متجانسة ذات "قضيّة" واحدة، كما تخلق لديه نوعًا من الشعور بالحماية. مضيفًا انّ "ذلك أمر طبيعي في عصر "نهاية الحكايات الكبرى" حسب تعبير المفكّر الفرنسي فرانسوا ليوتار، حيث خفت بريق الإيديولوجيا لتعوّضها "حكايات صغرى" ليست أقلّ تأثيرًا وقدرة على نحت كيانات الأفراد"، خاصّة في بلد كتونس حيث تضيق مجالات الفعل السياسي والتطوّعي المستقلّ عمومًا. لكن مع ذلك تبقى السياسة غير بعيدة عن هذه الظاهرة اذ تتداخل معها أحيانًا.
علاقة "الكرة" بالسياسة
كان لافتًا ذلك المشهد الذي حصل يوم الأحد الماضي في ملعب باجة، عندما بدأ بعض أنصار الترجّي الرياضي التونسي في ترديد انشودة يعبّرون فيها عن مدى تعلّقهم بالنصر وعن استعدادهم لحرق مدينة الفريق المضيّف اذا لم يتسنّى لهم ذلك، فبادر عندها ضابط أمني رفيع بمخاطبتهم من خلال مكبّر الصوت وطالبهم ب"تبديل" اهزوجتهم، فما كان من بعضهم الاّ ان استحضروا أخرى يشبّهون فيها فريقهم ب"حزب الله" اللبناني، ممّا أثار هلع الضابط الذي عاود طلبه بإلحاح أشدّ.
هذا المشهد على طرافته يدلّ ولاشكّ على أمور تتجاوز التعليق البسيط، فهو كما يرى الدكتور مبروك يبيّن كيف "تختزل لعبة كرة القدم في بلادنا جملة من التناقضات والتجاذبات الإجتماعيّة ذات العلاقة بالشأن السياسي". فمثل هذه المشاهد تُظهر كيف يكون "الإنتماء الرياضي" مغلّفًا لإنتماءات أخرى أحيانًا، فالتنافس بين الفرق الكبرى قد يُفسح المجال من خلال التعبير التلقائي للمشجّعين لتنافسٍ ذي شحنة سلبيّة بين الجهات، كما هو الحال بين فريق الرياضي الصفاقسي "ممثّل" مدينة صفاقس التي يرى بعض سكّانها أنّها مدينة "محرومة"، والنجم الساحلي "ممثّل" الساحل عمومًا ومدينة سوسة على وجه الخصوص، التي يعتقدون أنّها حظيت بعناية خاصّة في "العهد الجديد". كما انّ فريق الترجّي رغم اشتمال جمهوره على مشجّعين من مختلف الفئات والطبقات الإجتماعيّة مرتبط في المخيال الجماعي لكثير من التونسيّين بأنّه فريق "بورجوازيّة العاصمة"، بينما يمثّل النادي الإفريقي الأحياء الشعبيّة والجهات الفقيرة بالبلاد (ولايات الشمال الغربي خاصّة) رغم أنّ كليهما تنحدر نشأته من أحياء المدينة العتيقة.
وكما يقول "م" وهو من أحبّاء احدى الفرق الكبرى بالعاصمة "في كرة القدم هناك كثير من السياسة" ذاكرًا على سبيل المثال كيف ظهرت أعلام فلسطين في الملاعب ابّان انطلاق الإنتفاضة الأخيرة قبل ان يمنعها الأمن، والقمصان التي تحمل صورة الرمز الثوري اليساري تشي غيفارا، التي زاد منع الأمن لإرتدائها بالملاعب من إقبال الشباب عليها. كما يشير الى انّ بعض الأهازيج التي رفعتها جماهير الترجّي والإفريقي في السنوات الأخيرة، أعطت للتنافس التقليدي بينهما في مجال الرياضة بعدًا أخر معبّرًا عن التنافس بين بعض مراكز النفوذ في بلادنا.
"م" ذي المستوى الجامعي المرموق والمنخرط في احد أحزاب المعارضة النشِطة ببلادنا، من الأحبّاء الأوفياء الذين لا يتخلّفون عن أيّ مباراة لفريقهم، وهو لا يرى مفارقة أو تعارضًا بين ما يتمتّع به من وعي سياسي وبين "انتمائه الرياضي"، اذ أنّه "يجد في أجواء الكرة أمورًا لا يوفّرها له انتماءه السياسي، فمن خلالها فقط يستطيع تفريغ شحنات الضغط اليومي، وأحيانًا الغضب، والتمتّع بهامش من الحرّية..وتذوّق طعم الإنتصار"
رغم كلّ ما يكن ان يُقال عن تدخّل السياسة في الرياضة كما تشهد على ذلك تدخّل السلطات في اختيار رؤساء الفرق أو رئيس جامعة كرة القدم، وعن كون الإنتماء الرياضي يمثّل نوعا من التعويض للإنتماء السياسي أو الوعي الطبقي لدى جموع الشباب، تبقى "الكورة" هي أحد الملاذات القليلة لشباب يعاني الكثير منه من ضيق الأفق ومن فقر المستوى الثقافي، فهناك فقط كما يختم الدكتور مبروك "يستطيع الشابّ التونسي ان يشعر بالإنتصار الوحيد الممكن".
غسّان بن خليفة
2 Comments:
tu as une plume de plus en plus délicieuse ya Ghassan..
anyway, "khobza w marqa w moubilette zarqa" comme disent wlad 7oumti.. :)))))
bonne continuation
شكرًا...
إرسال تعليق
<< Home