الجمعة، فيفري 08، 2008

أمريكا التي أحبّ. مقال مميّز للد. منصف المرزوقي


موقعنا من الطريق إلى الديمقراطية

أمريكا التي أحبّ

الاربعاء 6 شباط (فبراير) 2008

لا أتصور أنه يوجد عربي واحد - اللهم إلا إذا كان عميلا- لا يكره السياسة الأمريكية بشدة أي ادارة بوش على وجه التحديد.

إن كنت عروبيا لا تستطيع إلا أن تكره هذه السياسة المجرمة التي قتلت مائة ألف عراقي بقنابلها "الذكية الجراحية التي لا تسنهدف المدنيين" ، والتي شردت أربعة ملايين عراقي ودمرت العراق ، وتحاملت على الشعب الفلسطيني كما لم تتحامل إدارة أمريكية واليوم تضغط على وكلائها المصريين لإعادة غزة إلى القفص.

إن كنت مسلما لا تستطيع إلا كره إدارة زل لسان رئيسها يوما وهو يتحدث عن الحرب الصليبية وأشهرت حربا غير معلنة على الإسلام بكل الوسائل الحبيثة. إن كنت ديمقراطيا لا تستطيع إلا كره إدارة هي اليوم أكبر سند للدكتاتوريات العربية ، ناهيك عن ضربها في الصميم مصداقية الدمقراطية عندما ادعت لحظة تبنيها و بهذا الاستحواذ " بوظت" كل العمل الذي قام به الديمقراطيون العرب منذ عشرين سنة لربح معركة القلوب والعقول

وإن كنت حقوقيا لا تستطيع إلا كره إدارة ارتكبت قوانتانامو وشرعت التعذيب وأعادت الاعتبار لأنظمة بشعة بحجة وقوفها معها في حربها ضد ما تسميه الارهاب ، ناهيك عن تسببها في كل القوانين ضد الارهاب المنسوخة روحا من قانون الوطنية السيء الذكر والذي أرحع الحريات العامة والفردية في العالم وحتى في أمريكا ،عقودا إلى الوراء.

وإن كنت عالميا لا تستطيع إلا كره إدارة لا ترى مانعا من الكارثة البيئية المرتقبة وتقف ضد قيام عدالة دولية وتمول مزارعيها ليموت مزارعو افريقيا من الجوع، وتمنع شركات الأدوية من صنع أدوية السيدا للمحافظة على الأرباح الخيالية لشركاتها الصيدلية....كل هذا خدمة لرأس المال العالمي على حساب حق الأجيال المقبلة في الحياة وهذه الأجيال في الصحة والتقدم .

ولأنني كل هذا في نفس الوقت فإن كرهي لهذه الإدارة نقي خالص لا تشوبه شائبة من أي تفهم او تعاطف.

المشكلة الكبرى أن كرهنا العظيم للسياسة الأمريكية - والتي تشاركنا فيه أغلب أمم الأرض ومنها الأوروبية - كثيرا ما يخلط بين سياسة وإدارة ، وبين شعب بأكمله, إنها إلى حد ما غلطة وسائل الاعلام عندما تكتب مثلا : أمريكا مصرة على البقاء في العراق ، أو امريكا تطالب مصر بعودة الحدود بينها وبين غزة. هذا الكلام غير مسؤول والصيغة الحقيقية للخبر هي: إدارة الرئيس بوش مصرة على بقاء الجيش الأمريكي في العراق، وإدارة بوش تطالب حكومة مبارك بعودة الحدود ,

نعم لا بد من احترام أبسط البديهيات في التعبير وأننا في قضية الحال لسنا أمام أمريكا، أي أمام الشعب الأمريكي ، وإنما أمام رئيس انتخب بثلث القوائم الانتخابية و يعرف تدني في الشعبية لم يعرفها رئيس قبله. هنا أسارع للقول أنني لا أنوي تمجيد هذا الشعب أو الانخراط في رؤيا مثالية وساذجة له ، فهو ككل التجمعات البشرية كيان بالغ التعقيد وله سلبياته وإيجابياته . لكن، لا يمكنني إخفاء إعجاب شديد بالدرس الذي يعطيه هذا الأيام ، أي بمناسبة الانتخابات التمهيدية ، لكل شعوب العالم وخاصة لنا نحن العرب.

بالطبع هناك الشكل أي الانتخابات التي لا علاقة لها بالمسخرات التي تعرفها في بلداننا . من جهة أنظمة مستبدة تكذب وتزيف في وضح النهار وذلك باسم الديمقراطية والقانون وسيادة الشعب وبقية الخرم من الكلمات السجينة، ومن جهة شعوب مهانة مستسلمة ،وحتى جبانة، تعرف أن شرفها منتهك، وسيادتها مصادرة، وثرواتها في أيدي اللصوص، ومع ذلك لا حول لها ولا قوة. بخصوص هذا الشكل، تعودنا, وكل انتخابات حقيقية في أي بلد ديمقراطي، ومنها كثير من بلدان الجنوب، صفعة على خدود تعودت الصفع وتصفحت ضده. الجديد في الانتخابات التحضيرية الأمريكية هو الفحوى.

من يقدر بين العرب ما معتى أن يفوز رجل أسود في ولاية "أيوا" حيث تسعين في المائة من سكانها من أحفاد الألمان والسكندنافيين والإنجليز البوتستانت إي عصارة الأمركيين العنصريين الذين ابادوا السكان الأصليين . من يقدر أهمية خروج رجال سود للدفاع عن هيلاري كلنتون المرأة البيضاء في وجه أوباما الرجل الأسود التي تفترض كل آليات التفكير عندنا أن يكونوا في صفه من منطلق ركن من أركان المنطق السياسي العربي: أنا وابن عمي على الغريب,

وهذه المرأة التي يمكن أن تصبح رئيسة أقوى دولة في العالم ! لو اصيبت بحادث سيارة في السعودية لكانت ديتها ربع دية سائقها السعودي لأنها امرأة ومن ثمة هي في عرف البلاد نصف رجل، ولأنها مسيحية ومن ثمة نصف مسلم. الحصيلة ربع ما يتلقاه ورثة سائقها السعودي,

العظيم في هذه الانتخابات ليس أن تتجند نساء بيض لرجل أسود، ورجال سود لإمرأة بيضاء ،وانما ما يعنيه الأمر من قفزة عملاقة فوق هوية المترشح - لونه ، جنسه- وقد استبطنت الناس أخيرا ان ما يهم هو الشخص من جهة ومن جهة أخرى البرنامج السياسي. من يتصور فينا اليوم مرشح امه مصرية ، لكن والده أمريكي أو اوربي أو أفريقي أو ياباني ، يحظى بدعم هائل من الشعب المصري لأنه إنسان محترم ولأن له برنامج مثير للآمال؟.وصل

قفزة عملاقة في النضج السياسي لا تضاهيها إلا القفزة العملاقة لنا نحن العرب.... في الاتجاه المعاكس, ففي الستينات تجاوزنا مفهوم القبيلة والطائفة وأصبحت لنا هيئات قومية فيها المسيحين والمسلمين وتعاركنا على برامج سياسية وخيارات عقائدية . والآن نحن نتخبط في قضايا السنة والشيعة والعلويين والعروش والصحوة وهلم جرا

الهدف من هذا المقال ليس الانخراط في جلد الذات وهذه رياضة أبغض لي من سياسة بوش. الهدف فقط أن يعرف العرب أين هم على الطريق وأنه ما زال طويلا أمامهم ، ليس فقط بالنجاح في إقامة انتخابات جديرة بهذا الاسم، وإنما في الوصول إلى مرحلة من النضج تختفي فيها المعطيات العقائدية والعنصرية والطائفية في اختيار من يجكم ولا يعتبر فيها إلا الإنسان والبرنامج.

http://www.moncefmarzouki.net/spip.php?article181

1 Comments:

Blogger Big Trap Boy said...

فعلا مقال ممتاز غسان

شكرا على نشره

الأربعاء, فيفري 13, 2008 12:56:00 م  

إرسال تعليق

<< Home