أدمغتنا الشابّة تهاجر بحثًا عن.."جودة الحياة"
مقال لي..نُشِرَ منذ أسبوعين بالعدد 383 من جريدة الموقف
تتلاحق يوميًا التقارير الإخباريّة والصور المؤلمة لقوارب الموت ولراكبيها من شبابنا المهمّش "الحارق" الى الضفّة الشماليّة للبحر الأبيض المتوسّط، في محاولة بحث أخيرة عن حياة كريمة يئسوا من العثور عليها في وطنهم الأمّ، وإصرارًا منهم على حقّ الإنسان في السفر والتنقّل في أرجاء "القرية الكونيّة" كما يُسمَح بذلك للبضائع والأموال والثروات المنهوبة لشعوب الجنوب في عصر سيادة اقتصاد السوق المُعوْلَم. في خضم كلّ ذلك نتناسى أحيانًا وجود نوع أخر من الهجرة قد تكون أقلّ إثارة للمشاعر من مأساة المهاجرين "غير الشرعيّين" ولكنّها لاتقلّ عنها خطورة، هي هجرة أصحاب الكفاءات العلميّة والشهائد الجامعيّة العليا أو ما تُعرَف أيضًا ب"هجرة الأدمغة". اذ لايزال الآلاف من شبابنا ذكورًا وإناثًا يقفون كلّ يوم الساعات الطوال في صفوف انتظار لا تنتهي أمام السفارات الأجنبيّة، لاسيما الغربيّة منها، مترقّبين دورهم للمرور أمام موظّفين صارمين لا يهتمّون بغير الوثائق والشهائد الموجودة في ملفّاتهم ومدى تطابقها مع قوانين الهجرة في بلادهم واحتياجاتها الى هذا الإختصاص العلمي أو تلك الكفاءةالمهنيّة.
تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 10 آلاف تونسي بين مهاجر ومقيم في كندا وحدها رغم بعد المسافات وغلاء المعيشة هناك، بينهم 2200 طالبًا يدرسون حاليًا بالجامعات الكنديّة (حسب ما صرّح به السفير السابق لكندا في فيفري 2006) سينضمّون لاحقًا إلى آلاف آخرين تخرّجوا وولجوا سوق الشغل الذي لا يزال رحبًا بتلك الربوع. بينما أشارت الدراسة الميدانيّة الأخيرة للمرصد الوطني للشباب إلى انّ التونسيّين هم الأوائل من حيث عدد المُرسَّمين بالمرحلة الثالثة بالجامعات الفرنسيّة، اذ يبلغ عددهم 9600 طالب ، 34 بالمائة منهم في الشعب العلميّة.
اليأس من المستقبل
علي (26 عامًا، أصيل إحدى مدن الساحل، خريج كليّة الهندسة المعماريّة) هو أحد هؤلاء الشباب الحالمين بالهجرة، التقيناه أمام سفارة فرنسا ذات صباح، واقفًا بالصفّ ينتظر دوره لتقديم مطلب حصول على تأشيرة سياحيّة، يقول أنّها ستمكّنه من مقابلة مهندس معماري فرنسي أعجبه ملفّه الدراسي وتجربته المهنيّة على حداثتها وعرض عليه العمل لحسابه بعد مقابلته وإختباره مباشرة. ورغم انّ عليّ قد اشتغل بأكثر من مشروع مهمّ وأنّه، كما يقول، بمقدوره العمل مقابل جراية لاتقلّ عن الألف دينار شهريًا فإنّه يفضّل الهجرة لأسباب لا تتعلّق بالجوانب الماديّة، وإنّما بما يصفه بال"العقليّات الصدئة" في القطاع وما لقيه من استغلال وعدم تشجيع من المهندسين القدامى. ويذكر علي كيف انّ العمادة حاولت في السنوات الأخيرة تعديل القوانين المنظّمة للمهنة وإضافة سنتين تربّص بعد سنوات الدراسة الستّ، وتراجعت عن ذلك بعد الرفض العارم للطلبة. كما يتحدّث بمرارة عن تجربته مع أحد المهندسين الذي اشتغل عنده لإكتساب الخبرة والتمرّس على العمل فإكتشف أنّ مشغّله ينوي تحويله إلى ساعِ يحمل الرسائل ويشتري الأكل.
وأمّا عن مشاريع الدولة التي يُنتَدَب لها مهندسون معماريّون لتنفيذها فإنّه يفضّل عدم التعليق، مكتفيًا بالتربيت بيده على كتفيه وزمّ شفتيه في حركة يعرف كلّ التونسيّين مغزاها. رغم أنّه لايزال في مقتبل العمر فإنّ كلمات محدّثنا تنطوي على خيبة أمل كبيرة وعلى يأس أكبر من بلاده التي "مافيهاش مستقبل" على حدّ تعبيره، ولايخفي أنّه إذا تيسّرت له المغادرة إلى إحدى تلك الدول التّي يُجازَى فيها المرء على قدر إجتهاده لا لنسبه أو معارفه، فإنّه لن يفكّر في العودة إلاّ لمامًا وبهدف زيارة الأهل والأصدقاء لاغير.
هروب من سلطة المجتمع
هذه الظاهرة لا تقتصر على جنس الذكور دون الإناث، فحتّى الفتيات التونسيّات صار بعضهنّ يفضّل الهجرة على العيش في مجتمع تقول ندى (29 عامًا، متحصّلة على دكتوراة ) أنّه يمنع الأفراد من التمتّع بحيواتهم كما يشتهون و"يفرض على أغلبهم نوعًا من البرمجة المُسبَقة لكلّ مناحي عيشهم..حتّى الترفيهيّة منها"، فهذه المولَعة بالسفر وبإكتشاف ثقافات العالم لم تستطع أن تصمد أمام إغراء سهولة زيارة كلّ البلدان الآروبيّة إنطلاقًا من فرنسا على عكس ما هو الحال في تونس حيث تغلق "التأشيرة" كلّ منافذ السفر والتثاقف مع الآخر. محدّثتنا التّي لا تصلّي ولا تصوم ولا تتحرّج من إعلان نفاتيّتها (من نفي وجود الإله أو ما يُعرف بالإلحاد)، بل و"تجرّأت" على الإرتباط بفرنسي غير مسلم، لا تفهم كيف تُمنَع قانونًا من الزواج منه بتونس وكيف يُرفض الإعتراف بزواجهما
رغم كلّ الحديث الرسمي عن حقوق المرأة والحداثة والحرّيات في بلادنا، وترى في ذلك القانون الذي يفرض على زوجها إشهار إسلامه وإن لم يكن عن إقتناع "نفاقًا غير مُبرَّر وتنكّرًا لحقّ أساسي من حقوق الإنسان" . ندى التّي ترغب في العودة يومًا إلى تونس ولو لسنوات قليلة بهدف تمكين أبنائها من التعرف على أصول أمهمّ و ثقافة بلادها، تؤكّد على أنّها لم ترد يومًا أن تهجر وطنها وإنّما اضطرّت إلى ذلك " ابتعادًا عن الضغوط العائليّة والإجتماعيّة والماديّة أيضًا، حتّى تبني حياتها كما تريد..لا بقدر ما يسمح لها به المجتمع". ولكن رغم قتامة المشهد وتفاقم ظاهرة هجرة الشباب التونسي، هناك من قد يختار الإتّجاه المعاكس ويسلك طريق العودة إلى الوطن الأمّ.
نهاية "الحلم الغربي" ؟
هذا ما اقتنع به نصري (41 عامًا، أصيل الوسط الغربي، دكتوراة في التاريخ) بعد عشرين سنة من العيش في فرنسا، إكتشف أنّه قضّاها في الجري وراء طموحاتِ لم تكن طموحاته، فلا المال ولا جمال باريس حقّقوا له ما كان يصبو إليه من حياة هنيئة، ولا مشهد الشباب "الذي يلقي بنفسه في البحر" في اتّجاه سواحل آروبا أثناه عن قرارالعودة إلى الوطن. فهو يقول أنّه لايعيش حقًا غير شهر واحد كلّ سنة..هو شهر أوت عندما يعود إلى أرض أجداده بالقصرين ، هناك فقط يمكنه " ان يمشي حافيًا وان يحسّ بحرارة الأرض والنّاس والتحلّق حول "برّاد التاي" مع والدته". ويختم مخاطبنا ناصحًا الشباب، الذين لازالوا يحلمون بالجنّة الغربيّة، انّ "الإلدورادو الآروبي قد تحوّل إلى وهم وانّ سوق الشغل هناك قد امتلأت على الآخر، وانّ فرص الإستثمار والتحدّيات الجديدة ستكون مستقبلاً في شرق البحر الأبيض المتوسّط".
فكم من شاب لا زال سيضطرّ إلى الهجرة قبل أن تتحوّل "ّجودة الحياة" في بلادنا من شعار انتخابي مزيّف إلى واقع مُعاش ملموس، لتنقلب الآية وتعود أدمغتنا إلى وطنها ويتوقّف النزبف ؟
اليأس من المستقبل
علي (26 عامًا، أصيل إحدى مدن الساحل، خريج كليّة الهندسة المعماريّة) هو أحد هؤلاء الشباب الحالمين بالهجرة، التقيناه أمام سفارة فرنسا ذات صباح، واقفًا بالصفّ ينتظر دوره لتقديم مطلب حصول على تأشيرة سياحيّة، يقول أنّها ستمكّنه من مقابلة مهندس معماري فرنسي أعجبه ملفّه الدراسي وتجربته المهنيّة على حداثتها وعرض عليه العمل لحسابه بعد مقابلته وإختباره مباشرة. ورغم انّ عليّ قد اشتغل بأكثر من مشروع مهمّ وأنّه، كما يقول، بمقدوره العمل مقابل جراية لاتقلّ عن الألف دينار شهريًا فإنّه يفضّل الهجرة لأسباب لا تتعلّق بالجوانب الماديّة، وإنّما بما يصفه بال"العقليّات الصدئة" في القطاع وما لقيه من استغلال وعدم تشجيع من المهندسين القدامى. ويذكر علي كيف انّ العمادة حاولت في السنوات الأخيرة تعديل القوانين المنظّمة للمهنة وإضافة سنتين تربّص بعد سنوات الدراسة الستّ، وتراجعت عن ذلك بعد الرفض العارم للطلبة. كما يتحدّث بمرارة عن تجربته مع أحد المهندسين الذي اشتغل عنده لإكتساب الخبرة والتمرّس على العمل فإكتشف أنّ مشغّله ينوي تحويله إلى ساعِ يحمل الرسائل ويشتري الأكل.
وأمّا عن مشاريع الدولة التي يُنتَدَب لها مهندسون معماريّون لتنفيذها فإنّه يفضّل عدم التعليق، مكتفيًا بالتربيت بيده على كتفيه وزمّ شفتيه في حركة يعرف كلّ التونسيّين مغزاها. رغم أنّه لايزال في مقتبل العمر فإنّ كلمات محدّثنا تنطوي على خيبة أمل كبيرة وعلى يأس أكبر من بلاده التي "مافيهاش مستقبل" على حدّ تعبيره، ولايخفي أنّه إذا تيسّرت له المغادرة إلى إحدى تلك الدول التّي يُجازَى فيها المرء على قدر إجتهاده لا لنسبه أو معارفه، فإنّه لن يفكّر في العودة إلاّ لمامًا وبهدف زيارة الأهل والأصدقاء لاغير.
هروب من سلطة المجتمع
هذه الظاهرة لا تقتصر على جنس الذكور دون الإناث، فحتّى الفتيات التونسيّات صار بعضهنّ يفضّل الهجرة على العيش في مجتمع تقول ندى (29 عامًا، متحصّلة على دكتوراة ) أنّه يمنع الأفراد من التمتّع بحيواتهم كما يشتهون و"يفرض على أغلبهم نوعًا من البرمجة المُسبَقة لكلّ مناحي عيشهم..حتّى الترفيهيّة منها"، فهذه المولَعة بالسفر وبإكتشاف ثقافات العالم لم تستطع أن تصمد أمام إغراء سهولة زيارة كلّ البلدان الآروبيّة إنطلاقًا من فرنسا على عكس ما هو الحال في تونس حيث تغلق "التأشيرة" كلّ منافذ السفر والتثاقف مع الآخر. محدّثتنا التّي لا تصلّي ولا تصوم ولا تتحرّج من إعلان نفاتيّتها (من نفي وجود الإله أو ما يُعرف بالإلحاد)، بل و"تجرّأت" على الإرتباط بفرنسي غير مسلم، لا تفهم كيف تُمنَع قانونًا من الزواج منه بتونس وكيف يُرفض الإعتراف بزواجهما
رغم كلّ الحديث الرسمي عن حقوق المرأة والحداثة والحرّيات في بلادنا، وترى في ذلك القانون الذي يفرض على زوجها إشهار إسلامه وإن لم يكن عن إقتناع "نفاقًا غير مُبرَّر وتنكّرًا لحقّ أساسي من حقوق الإنسان" . ندى التّي ترغب في العودة يومًا إلى تونس ولو لسنوات قليلة بهدف تمكين أبنائها من التعرف على أصول أمهمّ و ثقافة بلادها، تؤكّد على أنّها لم ترد يومًا أن تهجر وطنها وإنّما اضطرّت إلى ذلك " ابتعادًا عن الضغوط العائليّة والإجتماعيّة والماديّة أيضًا، حتّى تبني حياتها كما تريد..لا بقدر ما يسمح لها به المجتمع". ولكن رغم قتامة المشهد وتفاقم ظاهرة هجرة الشباب التونسي، هناك من قد يختار الإتّجاه المعاكس ويسلك طريق العودة إلى الوطن الأمّ.
نهاية "الحلم الغربي" ؟
هذا ما اقتنع به نصري (41 عامًا، أصيل الوسط الغربي، دكتوراة في التاريخ) بعد عشرين سنة من العيش في فرنسا، إكتشف أنّه قضّاها في الجري وراء طموحاتِ لم تكن طموحاته، فلا المال ولا جمال باريس حقّقوا له ما كان يصبو إليه من حياة هنيئة، ولا مشهد الشباب "الذي يلقي بنفسه في البحر" في اتّجاه سواحل آروبا أثناه عن قرارالعودة إلى الوطن. فهو يقول أنّه لايعيش حقًا غير شهر واحد كلّ سنة..هو شهر أوت عندما يعود إلى أرض أجداده بالقصرين ، هناك فقط يمكنه " ان يمشي حافيًا وان يحسّ بحرارة الأرض والنّاس والتحلّق حول "برّاد التاي" مع والدته". ويختم مخاطبنا ناصحًا الشباب، الذين لازالوا يحلمون بالجنّة الغربيّة، انّ "الإلدورادو الآروبي قد تحوّل إلى وهم وانّ سوق الشغل هناك قد امتلأت على الآخر، وانّ فرص الإستثمار والتحدّيات الجديدة ستكون مستقبلاً في شرق البحر الأبيض المتوسّط".
فكم من شاب لا زال سيضطرّ إلى الهجرة قبل أن تتحوّل "ّجودة الحياة" في بلادنا من شعار انتخابي مزيّف إلى واقع مُعاش ملموس، لتنقلب الآية وتعود أدمغتنا إلى وطنها ويتوقّف النزبف ؟
غسّان بن خليفة
0 Comments:
إرسال تعليق
<< Home