الثلاثاء، أوت 14، 2007

إرضــاءً لضمائرنا



مقال قيّم للباحث التونسي د. محمّد الحدّاد حول العبودية التي مازالت تُمارس في بعض مناطق ..العالم الإسلامي



إرضــاء لضمائرنا

بقلم: محمد الحدّاد (*)

من الضروري أن يحتاط الإنسان من الأخبار التي تظهر فجأة في بعض وسائل الإعلام العالمية متصلة ببلدان مصنفة في خانة «المغضوب عليها». فالتلاعب بالأخبار وبالعقول هو من سمات النظام العالمي الجديد عندما يُضمر خططاً تخفي غير ما تظهر. ومنذ أن رأينا وزير خارجية أكبر دولة في العالم يلوّح من أعلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بشيء صغير غير محدّد زعم أنّه البرهان الساطع على امتلاك النظام العراقي السابق للأسلحة النووية، وبعد أن انكشفت هذه الكذبة الكبرى وكذبات أخرى غيرها، أصبح الإنسان لا يستبعد شيئا مما قد تبلغه عمليات التلاعب بالعقول في الحالات المخصوصة التي تنطوي على رهانات ومصالح ضخمة.

لكن بعض الأحداث قد تكون صحيحة ولا تحظى بالاهتمام لأنها تبدو مريبة للسبب الذي ذكرنا. وهذه مشكلة كبرى، إذ يترتب على الحالة الثانية أن نواجه بالصمت أحداثا تستدعي الاستنكار والإدانة، والصمت أمامها يصبح نوعا من الرضا بالجريمة، وقد تصبح مجموعات بشرية مورطة أخلاقيا لأنها صمتت أمام حدث ما وهي تظنّ صمتها من باب الاحتياط ويظن بها آخرون أنها صمتت مهادنة للحدث أو بسبب ضعف إدراكها لخطره أو قلة اهتمامها بالحقوق الدنيا للإنسان.

اعترف أني شخصيا من الذين لم يعيروا اهتماما كبيرا لقضية الفتاة النوبية التي تحدث عنها الإعلام الغربي سنة 2002 وقيل آنذاك إنها كانت «أمَة» لدى أسرة من الديبلوماسيين السودانيين المقيمين في بريطانيا. بدا لي الأمر مريبا في تلك الفترة التي شهدت استفحال الصراعات الخفية على السودان وقد اكتشفت مآسيه في تواز مع استكشاف بعض الثروات النفطية فيه.

لكن برنامجا وثائقيا خصصته القناة التلفزيونية الأوروبية «آرتيه» منذ أيام لموضوع العبودية في العالم الحديث يصدم مشاعر الإنسان السويّ ويدفع إلى إطلاق صيحة فزع من قلة اكتراث الإنسانية عامة، والعرب والمسلمين خاصة، بهذا الموضوع البالغ الحساسية.

قناة «آرتيه» هي قناة مسؤولة وموضوعية وليس من عادتها تضخيم الأحداث أو المساهمة في التلاعب بالعقول. والشريطان الوثائقيان اللذان بثتهما منذ أيام لا يشيان بأية رغبة في إخراج القضية عن سياقها الخاص واستعمالها لغايات أخرى. ومع الأسف فإن ما يستنتجه المشاهد أن العالم الإسلامي هو المعني قبل غيره بقضية العبودية، والمفارقة أنه المعني لكنه الأقل اعتناء بهذه القضية، وهنا تكمن المأساة. كان الشريط الوثائقي الأوّل مخصصا لهذه الفتاة السودانية تحديدا التي عرفت قصة حياتها من خلال الكتاب الذي أصدره باسمها الصحافي داميان لويس، وقد لقي الكتاب إقبالا ضخما في كل البلدان إلا البلدان العربيّة.

وعلم قرّاء الكتاب أنّ الفتاة المسكينة كانت ضحية غارة قامت بها ميليشيا عربية في جنوب السودان على قبيلتها فاختُطفت صغيرة وبيعت في سوق النخاسة وتعرضت لكل ألوان العذاب والإهانة، ومنها طبعا الاعتداء الجنسي. وقد أهديت ذات يوم لأسرة سودانية مقيمة في لندن بصفة ديبلوماسية فواصلت معاملتها معاملة العبيد إلى أن تمكنت من الفرار بمساعدة شخص يشترك معها في الأصول. منذ ذلك الحين كبرت الفتاة وتدربت على استعمال اللغة الانكليزية فروت لمخرج الشريط الوثائقي بنفسها جوانب من مأساتها، ما يميل إلى التأكيد بأنّ داميان لويس لم يبالغ فيما كان سجّله على لسانها، وأنّ الضجة التي أثيرت في الغرب عند صدور الكتاب لم تكن مفتعلة، أو على الأقل لم تكن مفتعلة كلها رغم سعي البعض إلى الربط المباشر بين القضية والسياسة السودانية أو بينها والدين الإسلامي.

وقد بيّن الشريط الوثائقي الثاني الذي عرضته القناة أن القضية ليست منفردة ولا استثنائية ولا محصورة في السودان تحديدا لكنها تعمّ أيضا النيجر وشمال نيجيريا، والجامع بين هذه المناطق جميعا أنها تنتمي إلى العالم الإسلامي. وما عرضه الشريط الثاني هو أدهى وأمرّ، ولم يكن يتخيّل المرء أن من الممكن أن يتواصل مثله في القرن الحادي والعشرين. فقد اعتمد الشريط الثاني نفس تقنية الحوار المباشر مع الضحايا الذين تحدثوا عن مجموعات كبيرة من الرعاة تعيش حياة العبودية، تعيش العبودية لا بالمعنى «الحديث» الذي يتضمن استغلال الأطفال للعمل أو الفتيات للدعارة، بل العبودية في أشكالها القديمة، تلك التي كان يظنّ أنّ العالم قد تخلص منها إلى الأبد. لقد روى هؤلاء أنهم يعيشون في صحراء شاسعة لا قدرة لهم على اختراقها وإلا ماتوا فيها جوعا وعطشا، وهم يعيشون بفضل ما يقدمه لهم السادة مما يسدّ الرمق ويطفئ الظمأ.

ويقومون مقابل ذلك بكل الأعمال المضنية دون مقابل طبعا، وللسادة عليهم كل الحقوق يضربونهم ويعتدون عليهم ويأخذون منهم نساءهم وبناتهم، ومن بدا منه امتناع أو تذمّر عوقب على مرأى الجميع بالضرب المبرح أو قطع الأعضاء أو القتل أحيانا. نعم يحدث هذا في مناطق مسلمة من إفريقيا ويدينه الغرب فيما لا يعيره المسلمون كبير اهتمام. أليس أجدر بالبعض أن يهتم بمحاربة هذه الظواهر المخزية بدل إطلاق الفتاوى والحروب الكلامية ضد الليبراليين والعلمانيين؟ هل من أمل أن تعتني منظمة المؤتمر الإسلامي بالقضية وتضع برنامجا متكاملا لتوعية هذه القبائل ولدعوتها للتخلي عن هذه الممارسات التي ما زالت مختلطة عندها بالثقافة الإسلامية؟

يمكن أن نقول ما نريد عن أنفسنا وعن قيمنا وعن تراثنا وعن ماضينا، لكن العالم يحاسبنا على الوقائع، والوقائع عنيدة، فهي تقول إن آخر بلد انضم رسميا إلى المعاهدة الدولية لحظر تجارة الرقيق هو بلد إسلامي (موريتانيا) وأن ما بقي في العالم من الأشكال القديمة للعبودية يتركز أساسا في مناطق تقطنها قبائل مسلمة.

ما عرضه الشريطان تؤكده أيضا تقارير الأمم المتحدة وهيئاتها المعتمدة التي تقدّر بين 100 مليون إلى 250 مليون شخص يعيشون قريبا من حياة العبودية، مثل الفتيات اللائي يتعاطين البغاء والأطفال الذين يُستغلّون في الأعمال الشاقة. وهذه الأشكال من الاستغلال تصنف على أنها أشكال حديثة من العبودية، وهي موجودة في مناطق عدّة من العالم حتى العالم الغربي نفسه. لكن يوجد شيء آخر يدعى الأشكال التقليدية للعبودية المتواصلة في العالم الحديث وهو يشمل حوالى 25 مليون شخص هم الذين خصصت لهم قناة «آرتيه» برنامجها الذي تحدثنا عنه. فلم يعد بعده من عذر لأحد إذا لم يقم مستنكرا لهذه الممارسات داعيا إلى أن تتوقف في أقرب الآجال وبكل أشكال الحزم. إنها ليست ادعاءات غربية ولا تلاعب بالأخبار لكنها الحقيقة التي نتهرب من مواجهتها، ربما لأننا تعوّدنا على أن نكرّر بلذة منذ الصبا بيت المتنبي الذي يقول: «العبد ليس لحرّ صالح بأخ/ لو أنه في ثياب الحرّ مولود».

أما الفصل الرابع من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المخصص لمنع العبودية فربما طرق أسماعنا صدفة لكنه ليس مما يتردّد في مدارسنا ومجالسنا وصحفنا!


(*) كاتب من تونس

(المصدر: ملحق "تيارات" بصحيفة "الحياة" (يومية – لندن) الصادرة يوم 12 أوت 2007)